الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مواقف إيمانية وبطولية للصحابة في غزوة بدر

مواقف إيمانية وبطولية للصحابة في غزوة بدر

مواقف إيمانية وبطولية للصحابة في غزوة بدر

في السابع عشر من رمضان في العام الثاني من الهجرة النبوية وقعت غزوة بدر، تلكم الغزوة التي كانت من الغزوات والمعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام، وقد سُميت بهذا الاسم نسبة إلى المنطقة التي وقع القتال فيها بالقرب من بئر بدر بين مكة والمدينة المنورة، وقد عُرِفت في القرآن الكريم ببدر ويوم الفرقان، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(الأنفال:41)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(آل عمران:123).
قال ابن كثير: "قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي: يوم بدر، وكان في يوم جمعة وافق السابع عشر من رمضان، من سنة اثنتين من الهجرة، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك وخرب محله، هذا مع قلة عدد المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، فيهم فرسان وسبعون بعيراً، والباقون مشاة، ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه، وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد (الحديد المغطي للبدن)، والبيض (خوذ حديد للرأس)، والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد، فأعز الله رسوله، وأظهر وحيه وتنزيله، وبيَّض وجه النبي وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله، ولهذا قال تعالى ممتنا على عباده المؤمنين وحزبه المتقين: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّة}(آل عمران:123} أي: قليل عددكم لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العدد والعدد".

إن غزوة بدر من الغزوات العظيمة في أحداثها ومواقفها، وكل انتصارٍ للمسلمين على مر التاريخ والعصور سيظل مديناً لبدر، التي كانت بداية الفتوح والانتصارات الإسلامية، وقد كان للصحابة فيها من المواقف الإيمانية والبطولية الكثير والكثير، ومن هذه المواقف:

الشجاعة :

روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (شهدتُ من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إليَّ مما عُدِلَ به: أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: لا تقول كما قال قوم موسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا}، ولكنا نقاتلُ عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجههُ وسره).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تُريدُ يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا) رواه مسلم. هكذا وقع في هذه الرواية أن القائل سعد بن عبادة، وقال غيره أن القائل هو: سعد بن معاذ، ويمكن الجمع بأن النبي صلّى الله عليه وسلم استشارهم في غزوة بدر مرتين، الأولى: وهو بالمدينة أول ما بلغه خبر العير مع أبي سفيان فكانت حينئذ قولة سعد بن عبادة وذلك ظاهر في رواية مسلم، والثانية ـ كما في رواية أخرى ـ: بعد أن خرج من المدينة وحينئذ كانت قولة سعد بن معاذ.

حرص الصغار على الجهاد :

عمير بن أبي وقاص من أصغر الشهداء في غزوة بدر، إذْ لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، وفي سير أعلام النبلاء للذهبي، والإصابة لابن حجر وغيرهما: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر وعرض عليه جيش بدر ردَّ عمير بن أبي وقاص (أرجعه لصغره) فبكى عمير فأجازه، قال سعد: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يتوارى فقلت: ما لك يا أخي؟ قال: إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني ويردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة، وقد قُتِل بالفعل وهو ابن ست عشرة سنة، فكان أصغر شهداء بدر.

التضحية بالنفس والمسارعة للجنة :

عمير بن الحُمام رضي الله عنه أول شهيد من الأنصار في غزوة بدر، وهو مثال عملي من بدر في التضحية بالنفس والمسارعة إلى الجنة، قال عاصم بن عمر بن قتادة: "أول قتيل قُتِل من الأنصار في الإسلام (أثناء القتال) عُمير بن الحُمام". ويروي أنس بن مالك رضي الله عنه قصة استشهاد عمير بن الحمام في غزوة بدر فيقول: (فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه (أمامه)، فدنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم، قال: بخٍ بخٍ (كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه (جعبة السهام) فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتِل) رواه مسلم.

التنافس في الجهاد والجنة :

قال ابن حجر: "قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: استهم (اقترع) يوم بدر سعد بن خيثمة وأبوه، فخرج سهم سعد فقال له أبوه: يا بني آثرني اليوم، فقال سعد: يا أبت لو كان غير الجنة فعلت، فخرج سعد إلى بدر فقُتِلَ بها، وقتل أبوه خيثمة يوم أحد". وهذا الموقف من سعد رضي الله عنه مع أبيه يعطي صورة ظاهرة عن مدى حرص وتنافس الصحابة رضوان الله عليهم في غزوة بدر على الخروج للجهاد والقتال في سبيل الله، بل وتنافسهم في الحرص على الشهادة والموت في سبيل الله طلباً للجنة، فسعد الابن ووالده خيثمة لا يستطيعان الخروج معاً لاحتياج أسرتهما لبقاء أحدهما، فلم يتنازل أحدهما للآخر عن الخروج للقتال في غزوة بدر، رغبة في أن ينال هو الشهادة، حتى اضطرا إلى الاقتراع بينهما، فكان الخروج من نصيب سعد رضي الله عنه. وكان سعد رضي الله عنه في غاية البر والأدب مع والده، ولكنه كان حريصاً على الجهاد في سبيل الله، مشتاقاً إلى الجنة، ويعبر عن ذلك قوله لأبيه: "يا أبت لو كان غير الجنة فعلت (أي تركتك تخرج أنت)".

حفظ العهد :

قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (ما منعني أن أشهدَ بدراً إلا أني خرجتُ أنا وأبي حسيل، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمداً؟ فقلنا: ما نريدُه، ما نريدُ إلا المدينة، فأخذوا منا عهدَ الله وميثاقه لننصرفنَّ إلى المدينة ولا نُقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال: انصرفا، نفِي بعهدهم، ونستعين الله عليهم) رواه مسلم. فلم يخرج حذيفة رضي الله عنه في يوم بدر حفظاً لعهده مع المشركين.

معاملة الأسرى:

بعد انتهاء القتال وانتصار المسلمين في بدر، أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالأسرى وقال لهم: (استوصوا بالأسارى خيرا) رواه الطبراني وقال الحافظ الهيثمي: إسناده حسن. وقد امتثل الصحابة رضوان الله عليهم لوصية النبي صلى الله عليه وسلم بالأسرى من المشركين رغم ما لاقوه منهم من إيذاء وتعذيب في مكة، وضربوا المثل الطيب في معاملتهم للأسرى، يقول أخٌ لمصعب بن عمير رضي الله عنه: "وكنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني البر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم". ويقول أبو العاص بن الربيع: "كنت في رهط من الأنصار جزاهم الله خيراً، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل، والتمر زادهم، حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إليّ"، وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد قوله: "وكانوا يحملوننا ويمشون".

لم تكن غزوة بدر مجرد معركة قاتل فيها ثلاثمائة وثلاثة عشر من المؤمنين عدواً من المشركين يقدر عدده بألف, بل كانت هذه الغزوة على قلة عدد المقاتلين فيها، نقطة فاصلة في تاريخ الإسلام والإنسانية كلها, وقد ضرب الصحابة رضوان الله عليهم فيها أروع الأمثلة في الشجاعة والتضحية، والقيم الإنسانية والحضارية ـ حفظ العهد ومعاملتهم للأسرى ـ، والتي ظهر من خلالها صدق إيمانهم، وعظيم بذلهم وتضحياتهم، ويقينهم بما أعد الله لهم في الجنة، فرضي الله عن أهل بدرٍ وعن جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة