الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من أشراط الساعة..زخرفة المساجد والتباهي بها

من أشراط الساعة..زخرفة المساجد والتباهي بها

من أشراط الساعة..زخرفة المساجد والتباهي بها


أي المشاريع الخيريّة هي الأكثر إقبالاً من قِبَل المتبرّعين؟ اسأل المؤسّسات الخيريّة سيجيبونك وبدون تردّد: بناء المساجد! ولا حاجة للوقوف كثيراً حتى نكتشف سرّ هذا الإقبال ، الذي وردت النصوص الشرعية بفضله والثواب عليه، ومنها قوله –صلى الله عليه وسلم-: (من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة) متفق عليه.

ولسنا في معرض الحديث عن بناء المساجد وفضلها والحثّ عليها، ولكن القصد هو توجيه النظر إلى إشكاليّة شرعيّة تتعلّق بسوء تنفيذ تلك المساجد وخرْماً للضوابط الشرعيّة المتعلّقة بها، فبناء المساجد بابٌ من أبواب الحسنات الجارية، لكن زخرفتها بالزخارف المتنوّعة هو ما جاء التحذير منه واعتباره شرطاً من أشراط الساعة، تنبّأ المصطفى –صلى الله عليه وسلم- بحصوله وحدوثه وتوسّع الناس فيه.

لقد جاء التحذير النبوي مبكّراً من هذه المظاهر السلبيّة في السنّة، والأحاديث في ذلك مشتهرة، ومن أصحّها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد) رواه أحمد وأبو داود، وفي لفظٍ مقارب: (من أشراط الساعة: أن يتباهى الناس في المساجد) رواه النسائي وابن خزيمة.

ومن الوعيد الشديد الذي جاء في حقّ الزخارف ما جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (إذا زوّقتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم، فالدمار عليكم) رواه ابن أبي شيبة في المصنف ، والحديث موقوف وله حكم الرفع كما ذكر ذلك بعض أهل الحديث، والتزويق هو الزخرفة.

وتوافقت كلمات الصحابة رضي الله عنهم للنهي عن هذه المظاهر، فقد ذكر الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة، باب بنيان المساجد، قول أنس رضي الله عنه: "يتباهون، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً، فالتباهي بها: العناية بزخرفتها"، وقول ابن عباس رضي الله عنهما: " لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى"، وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: " ما ساء عمل قوم قط، إلا زخرفوا مساجدهم".

ولو تأمّلنا في النصوص والآثار الورادة في هذه المسألة وجدنا أن زخرفة المساجد هي في موضع النكير لاعتباراتٍ أربع:

الأول: دخول هذه الممارسات تحت دائرة الإسراف والتبذير الذي قد جاء النهي عنه شرعاً، ومعلومٌ أن الإسراف هو مجاوزةٌ للحدود الشرعية وإهدارٌ وتضييع للمال ، وقد جاء النهي عنه في قوله تعالى: { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (الأعراف:29)، وقوله تعالى: {ولا تبذر تبذيرا* إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا} (الاسراء: 26،27).

الثاني: قيام البعض بتحلية المساجد وزخرفتها تشبّهاً باليهود والنصارى الذين يُبالغون في هذا الجانب، فترى كثيراً من الكنائس والأديرة قد امتلأت بالزخارف المتنوّعة والنقوش المختلفة والبلاط الملّون على نحوٍ مبالغٍ فيه، فيسيرُ هؤلاء المزخرفين على خطى أهل الكتاب مخالفين بذلك دلائل الوحيين في النهي عن اتباعِ سننهم والسير على نهجهم.

الثالث: الإلهاء عن ذكر الله تعالى، ومقاصد الشرع تدلّ على الاهتمام بعزل الأمور الملهيةِ عن الخشوع والشاغلة عن إحضار القلب أثناء ممارسة العبادة، ولا أدلّ على ذلك مما جاء في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها عندما صلّى النبي -صلى الله عليه وسلم- بكساء مخطّط، فأبدله بكساءٍ آخر قائلاً: ( إنها ألهتني آنفا عن صلاتي) وفي لفظٍ آخر: (كنت أنظر إلى علمها، وأنا في الصلاة فأخاف أن تفتنني)، فإذا كان هذا حال الكساء المربّع، فكيف إذا كانت البيئة المحيطة بالمصلّي مرصّعة بأنواع الزخارف والتحف؟

الرابع: تحوّل نيّة المزخرف للمساجد إلى المماراة والتباهي، والتفاخر بين الناس ولو لم يكن في المسألة إلا هذا الاعتبار لكفى بذلك مفسدة، والواقع يشهد أن النوايا في هذه الممارسات لابد أن يشوبها شائبة الرياء والسمعة، والمباهاة والتفاخر، على نحو ما حذّر منه النبي –صلى الله عليه وسلم-.

يقول الإمام البغوي: "المباهاة هي المفاخرة ، والمعنى : أنهم يزخرفون المساجد ، ويزينونها ، ثم يقعدون فيها ، ويتمارون ، ويتباهون ، ولا يشتغلون بالذِّكْر ، وقراءة القرآن ، والصلاة".

وإنما عمارة المسجد الحقيقيّة –كما يذكر العلماء- تكون بإقامة الصلاة فيها، وأداء الاعتكاف، وممارسة التعليم، وإقامة المحاضرات والندوات، والتفرّغ بذكر الله والدعوة إليه، وإقامة الشعائر المختلفة، وليست المسألة مجرّد بناءٍ –على أهميّته- وتلوين، وتطعيمٍ بنفائس الحجارة ورسم الخطوط ونحوها.

ولنا في رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أسوةٌ حسنة، لننظر كيف كان حال أوّل مسجد بُني في الإسلام؟ سنجد في الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنياً باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، ولمّا أراده والده عمر رضي الله عنه إعادة بناء المسجد وترميمه، أوصى البُناةً بقوله: وقال: "أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمّر أو تصفّر فتفتن الناس"، فكان القصد إيجاد المساجد التي تحمي الناس من المطر وإيجاد دار العبادة دون أن يكون التزويق والتفخيم مقصوداً.

ومع مرور الأيام وانحراف الناس عن جادة الشريعة، بدأت مظاهر الاهتمام بهذه المسألة على نحوٍ يُخرج المسجد من الإطار العبادي إلى الإطار العمراني، فبعد البساطة التي رأيناها في المسجد النبوي، صرف الناس اهتمامهم في بناء المآذن والقباب، والقناطر والسدود، وإضافة الأباريق والثريات، والقواعد والشمعدانات، فضلاً عن المنابر والكراسيّ وحوامل المصاحف، ودخل في البناء استخدام الجص والرخام بمختلف أنواعه، والشرائط المزخرفة بالفسيفساء، أو المرمر المزخرف.

وقد ذهب المسلمون أبعد من ذلك، فنشأ علم الفنّ الزخرفي الإسلامي والمسمّى: ARABESQUE وعلم التوريق ATAURIQUE والذي يُعنى بتكوين الوحدات الخزفيّة بأشكال من الورق والزهور، وامتلأت مساجد المسلمين بالكتابات والخطوط المتنوّعة التي تبطّن المحاريب والأسقف، وغيرها من الأمور التي يضيق الوقت عن ذكرها.

وبعد هذه النظرة المتأنّية وبيان جذور المشكلة ومظاهرها، لابد من بيان أن بناء المساجد خير لا ينبغي التهوين منه، لكن الهدف هنا هو ترسيخ فكرة التوازن وتحقيق الاعتدال المطلوب بحيث لا نتجاوز حدود المعقول، مع لفت النظر إلى صرف المبالغ التي تُهدر في هذه "القشور" إلى ما هو أجدى وأنفع، من كفالة يتيم، وإغاثة ملهوف، ومساندة ضعيف، ودعوة غير المسلمين، وتأليف قلب، فهل تجد هذه الكلمات آذاناً صاغية، ذلك ما نرجوه ونأمّله.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة