الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

عام الوفود

عام الوفود

عام الوفود

بعد فتح مكّة في العام الثامن للهجرة ، وانتهاء غزوة تبوك ، وسقوط آخر المعاقل المقاومة لدولة الإسلام ، وظهور نتائج الصراع بين الحق والباطل ، وبين التوحيد والشرك ، بادرت قبائل العرب إلى لإسلام ، وأقبلت الوفود إلى النبي – صلى الله عليه وسلم - من كل حدبٍ وصوب ، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم : { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً } ( النصر : 2 ) ، حتى ازداد عدد تلك الوفود في ذلك العام على الستّين وفداً - كما تشير مصادر التاريخ - ، واهتمّ بعض العلماء في ذكر تفاصيلها وإيراد أخبارها كابن إسحاق في سيرته و ابن سعد في الطبقات ، وهذه لمحة موجزة عن أهم تلك الوفود :

وفد بني تميم

يعتبر وفد بني تميم من أبرز الوفود التي جاءت إلى المدينة في ذلك العام ، وذلك لمكانتها بين قبائل العرب ، وسمعتها في مجال الأدب والخطابة والشعر .

وكان قدومهم إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – بسبب سريّة عيينة بن حصن رضي الله عنه إليهم ، فقد أسر منهم أحد عشر رجلاً وإحدى عشرة امرأة ، فقدم رؤساؤهم وأشرافهم ليشفعوا في هؤلاء الأسرى .

ويحكي علماء السيرة تفاصيل دخولهم على النبي – صلى الله عليه وسلم – وندائهم له على نحوٍ منافٍ للأدب نزل على إثرها قوله تعالى : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } ( الحجرات : 4 ) ، كما جرى بينهم وبين المسلمين سجالات شعريّة ومعارضات خطابيّة ، كانت في النهاية سبباً في إسلامهم وإسلام قومهم بعد ذلك.

وفد عبدالقيس

تذكر المصادر التاريخية أن رجلاً من بني عبدالقيس يُقال له منقذ بن حيّان كان يرد المدينة للتجارة ، فرأى النبي – صلى الله عليه وسلم – وأنصت لكلامه فأعجبه ، فأسلم وحسن إسلامه ، ثم بعثه النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتابٍ إلى قومه يدعوهم إلا الإسلام ، فتوافدوا عليه في ذلك العام وسألوه عن الإيمان والأشربة ، وكان كبيرهم هو الأشج الذي قال فيه النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة ) رواه مسلم .

وفد نجران

كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أرسل إلى نصارى نجران يدعوهم فيه إلى الإسلام ، فبعثوا إليه بوفد من أشرافهم ليقابلوه ، ودار النقاش طويلاً بين أولئك النصارى وبين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونزلت الكثير من الآيات التي تجيب عن تساؤلاتهم .

وبعد أن رأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تعنّتهم وإصرارهم على تزوير الحقائق دعاهم إلى المباهلة – أي الملاعنة - كما أمره الله تعالى في قوله : { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } ( آل عمران : 61 ) ، فامتنعوا عن المباهلة خشية أن يكون ذلك سبباً في هلاكهم ونزول العذاب عليهم ، ثم تصالحوا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – على دفع الخراج ، واشترطوا أن يبعث معهم رجلاً أمينا لقبض المال منهم ، فأرسل معهم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أمين هذه الأمة ، رواه البخاري ، ثم ما لبث الإسلام أن انتشر بينهم ، حتى بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – من يأخذ منهم صدقاتهم.

وفد بني حنيفة

جاء وفد بني حنيفة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكانوا سبعة عشر رجلاً فيهم مسيلمة الكذّاب ، فأسلموا ونزلوا في دار بنت الحارث التي كانت مخصّصة للوفود ، أما مسيلمة فكان يطمع في الملك والرياسة واستنكف عن الإسلام ، ولذلك كان يقول لمن حوله : " إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته " ، فلما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – مقالته أقبل إليه ومعه ثابت بن قيس رضي الله عنه ، وفي يده عليه الصلاة والسلام قطعةٌ من جريد النخل ، فقال – صلى الله عليه وسلم – : ( لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ، ولن تعدو أمر الله فيك ، ولئن أدبرت ليعقرنك الله ، وهذا ثابت يجيبك عني ) ، ثم انصرف عنه ، رواه البخاري .

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قد رأى في منامه كأنّ في يديه سوارين من ذهب ، فأصابه الهمّ لذلك ، حتى سمع في المنام من يأمره أن ينفخ فيهما ، فلما فعل ذلك استحالا تراباً ، فأوّلهما النبي – صلى الله عليه وسلم – بخروج من يدّعي النبوة كذباً وبهتاناً ، فكان أحدهما العنسيّ في اليمن ، ومسيلمة في بني حنيفة ، وتفاصيل الرؤيا في صحيح البخاري .

وفد الحميريّين من أهل اليمن

كانت للحميريّين وفادة في السنة التاسعة من الهجرة وافقت قدوم وفد بني تميم ، وكانوا أفضل منهم ، فقد قبلوا بشارة النبي – صلى الله عليه وسلم – ، كما جاء عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم : ( يا أهل اليمن اقبلوا البشرى ، إذ لم يقبلها بنو تميم ) فقالوا : " قبلنا " ، رواه البخاري ، ثم قالوا : " أتيناك لنتفقّه في الدين " ، وسألوه عن بدء الخلق وأحوال العالم ، فأجابهم النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك كلّه كما في البخاري .

وفد طيء

قدم وفد من أعيان طيء للقاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وبصحبتهم سيّدهم زيد الخيل رضي الله عنه ، والذي أسماه النبي – صلى الله عليه وسلم - زيد الخير ، فعرض عليهم النبي عليه الصلاة والسلام الإسلام فقبلوه ، وحسن إسلامهم .

وفد بني عامر

استقبل النبي – صلى الله عليه وسلم – وفد بني عامر وأحسن ضيافتهم ، فأعجبوا بأخلاقه عليه الصلاة والسلام فأسلموا جميعاً ، وأعلنوا تأييده ، وبالغوا في مدحه ، فعن أبي مطرف رضي الله عنه قال : " انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا : أنت سيّدنا ، فقال : ( السيد الله تبارك وتعالى ) ، قلنا : وأفضلنا فضلاً ، وأعظمنا طولا ، فقال لنا : ( قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يستجرينّكم الشيطان ) رواه الترمذي .

وممن جاء في ذلك الوفد زعيم القوم عامر بن الطفيل ، لكنّه لم يأت مهاجراً إلى الله ورسوله ، بل قدم يريد الغدر برسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكفاه الله شرّه ، وقد عرض على النبي عليه الصلاة والسلام مقاسمته في الملك ، أو أن يعهد إليه بالخلافة من بعده ، وإلا فالحرب بينه وبين المسلمين ، ولم تمضِ أيّام قليلة على تهديده حتى ابتلاه الله تعالى بالأورام الخبيثة فمات وهو راكبٌ فرسه ، رواه البخاري .

وفد بني سعد بن بكر

أرسلت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه وافداً إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ، ويروي الإمام البخاري قصة قدومه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : " بينما نحن جلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ، دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله – أي أوثق حباله - ، ثم قال لهم : أيكم محمد ؟ ، والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم ، فقلنا : هذا الرجل الأبيض المتكئ ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - : الرجل ابن عبد المطلب ؟ ، فقال له : ( قد أجبتك ) ، فقال الرجل : إني سائلك فمشدد عليك في المسألة ، فلا تجد عليّ في نفسك ، فقال : ( سل عما بدا لك ) ، فقال له : أسألك بربك ورب من قبلك ، آلله أرسلك إلى الناس كلهم ؟ ، فقال : ( اللهم نعم ) ، فقال : أنشدك بالله ، آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة ؟ ، فقال : ( اللهم نعم ) ، فقال له : أنشدك بالله ، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة ، فقال : ( اللهم نعم ) ، فقال له : أنشدك بالله ، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اللهم نعم ) فقال الرجل: آمنت بما جئت به ، وأنا رسول من ورائي من قومي ، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر "أ.هـ.

ولما رجع إلى قومه اجتمعوا إليه ، فكان أول ما تكلم به أن قال : بئست اللات والعزى : قالوا مه – أي : اسكت - يا ضمام ، اتق البرص والجذام ، اتق الجنون ، قال : ويلكم ، إنهما والله لا يضران ولا ينفعان ، إن الله عز وجل قد بعث رسولا ، وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه ، وإني أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، إنى قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه " ، ولم يمض ذلك اليوم حتى أسلم ديار بني بكر كلّها ، يقول قال ابن عباس رضي الله عنهما : " فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة " رواه أحمد .

وفد المراديين

ذكر علماء السيرة قدوم فروة بن مسيك المرادي رضي الله عنه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – مع جماعة من قومه ، كما أورد الإمام الترمذي طرفاً من خبره ، حين أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – فقال له : " يا رسول الله ، ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم ؟ فأذن لي في قتالهم ، وأمرني ، " ، فلما خرج من عند رسول الله عليه الصلاة والسلام سأل عنه ، وأرسل من يطلبه ، فلما جاءه قال له : ( ادع القوم ، فمن أسلم منهم فاقبل منه ، ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك ) .

ويروي ابن إسحاق في السيرة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – استعمله على قبائل مراد ومذحج وزبيد ، وأرسل معه خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه على أمر الصدقة ، وظل معه حتى توفي الرسول – صلى الله عليه وسلم – .

وفد كندة

أرسلت كندة وفداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – يرأسهم الأشعث بن قيس رضي الله عنه ، فأعلنوا إسلامهم ، واستقرّوا في المدينة أيّاماً ليتلقّوا العلم من النبي – صلى الله عليه وسلم - ، وكان من حملة ما سألوه السؤال عما اشتهر لديهم من عودة أصول أهل قريش إلى كندة ، فنفى النبي عليه الصلاة والسلام ذلك قائلاً : ( نحن بنو النضر بن كنانة ، لا نقفو أمّنا ، ولا ننتفي من أبينا ) والمقصود بالقول السابق إثبات نسبتهم للنضر بن كنانة ، ولذلك كان الأشعث بن قيس رضي الله عنه يقول : " لا أوتي برجل نفي رجلا من قريش من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد " رواه ابن ماجة .

وفد قوم جرير بن عبدالله البجلي

قدم جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه من أرض اليمن مع وفد من قومه إلى المدينة ليعلنوا إسلامهم ، ويحكي جرير رضي الله عنه لحظات وصوله فيقول : " لما دنوت من المدينة أنخت راحلتي ، ثم لبست حُلّتي ، ثم دخلت المسجد ، فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، فرماني الناس بالحدق – أي واجهوا أنظارهم إليه - ، فقلت لجليسي : يا عبد الله ، هل ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمري شيئا ؟ ، قال : نعم ، ذكرك بأحسن الذكر ، بينما هو يخطب إذ عرض له في خطبته فقال : ( إنه سيدخل عليكم من هذا الفج من خير ذي يمن ، ألا وإن على وجهه مسحة ملك ) ، يقول جرير رضي الله عنه : فحمدت الله عز وجل " رواه أحمد .

وفد ثقيف

عندما قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهم في المسجد ؛ ليكون أرق لقلوبهم إذا سمعوا القرآن ورأوا الناس تصلي ، فمكثوا يتردّدون على النبي - صلى الله عليه وسلم – وهو يدعوهم إلى الإسلام ، فعرضوا عليه أن يعقد معهم صُلحاً يأذن لهم فيه بموجبه بالزنا وشرب الخمر وأكل الربا ، ويترك لهم اللات ، ويعفيهم من الصلاة ، فأبى النبي – صلى الله عليه وسلم - ، فتشاوروا فلم يجدوا محيصاً من الإسلام ، واشترطوا أن يتولّى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هدم اللات ، وأن ثقيفاً لا يهدمونها بأيديهم قبل ذلك ، وأمّر النبي عليه الصلاة والسلام عليهم عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه لأنه كان أحرصهم على التفقّه في الدين وتعلّم القرآن .

وفد تميم الداري

كان تميم الداري رضي الله عنه رجلا نصرانيا ، فجاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم فبايعه على الإسلام ، وقد سرّ النبي – صلى الله عليه وسلم – بلقائه ، فقد كان شاهداً على صدقه عليه الصلاة والسلام فيما أخبر به من أمر الدجال وأوصافه ، حينما التقى به في إحدى أسفاره ، والقصّة بتمامها مذكورة في صحيح مسلم .

وبإمكاننا أن نستقي من الأخبار السايقة المنهج النبوي العظيم في كيفيّة التعامل مع المدعوّين ومراعاة مشاعرهم واختلاف مستوى مداركهم ، كما تعكس تلك الأخبار دقّة النبي – صلى الله عليه وسلم – وتنظيمه من خلال تهيأته الأماكن لاستقبال تلك الوفود وإعداد دور الضيافة لهم ، وتظهر أيضاً حرص القادمين على معرفة أحكام الدين وشرائعه ، فكانت هدايتهم هدايةً لمن ورائهم من العرب .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة