الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ابن قـيم الجــوزية

ابن قـيم الجــوزية

ابن قـيم الجــوزية

نسبه ومولده:
هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي، و يكنى بأبي عبد الله ويلقب بشمس الدين.

ولد بن القيم في اليوم السابع من شهر صفر سنة إحدى وتسعين وستمائة، ونشأ في بيت علم وفضل، وتربى على حب العلم والعلماء، فكان للبيئة التي نشأ بها أثر في توجيه حياته نحو طلب العلم، حتى نال شرف الإمامة في هذا الدين بتفوق وجدارة.

لقد كان والده أبو بكر قيما على مدرسة الجوزية في دمشق، تلك المدرسة التي بناها محيي الدين بن العلامة المشهور الحافظ عبد الرحمن الجوزي، فسميت بالجوزية نسبة إليه، فاشتهر والد الإمام بقيم الجوزية، ومن هنا جاءت شهرة الإمام بابن قيم الجوزية.

مشايخه الذين أخذ عنهم:
تتلمذ الإمام على كوكبة من أهل العلم والفضل، فأخذ من علومهم، ونهل من معارفهم، وتأثر بهم، فمن شيوخه مثلا: ابن عبد الدائم، وعيسى المطعِّم، والقاضي تقي الدين بن سليمان، وفاطمة بنت جوهر، والمجد التونسي، وابن أبي الفتح البعلي، والصفي الهندي، وأبو النصر، والمجد الحراني، فتلقى عنهم العلوم الشرعية بأنواعها من تفسير، وحديث، وفقه، وأصول، وتجويد...الخ، كما تلقى علم الفرائض عن والده الذي كان له باع طويل فيه.

فمشايخه الذين أخذ عنهم كثيرون كما ترى، لكنّ أمنّهم عليه يدا، وأعظمهم منزلة في قلبه، وأقربهم إلى نفسه هو شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية قدس الله سره، فقد تأثر به ابن القيم تأثرا كبيرا حتى صار لا يُذكر ابن تيمية إلا ويذكر معه ابن القيم، فقد تلقى علم ابن تيمية واقتنع به ونشره ودعا إيه وجادل عنه وحامى عنه، وقد كان أخص ما نشره ودعا إليه فقهه، فقد ناصر آراءه في الطلاق، وحرر العبارات في فتاويه، وجمع الكثير من أصوله، وكتاباه (إعلام الموقعين، وزاد المعاد) وغيرهما قد أخذ فيهما من تلك التركة المثرية التي تركها ابن تيمية في الفقه. وكان مع ما تلقاه عن شيخه من روح قوية وآراء حرة واتجاه سلفي، قد برع في علوم متعددة.

وتلقيه عن ابن تيمية كان بعد أن عاد الشيخ من مصر سنة 712هـ، فإنه كان قبل ذلك لم ينضج بعد، وإذا كان جلّ عمل ابن تيمية في تلك المدة في الفقه والفتاوى، وتأكيد ما قرره من قبل في العقائد، فأخذ فقهه وتلقى منهاجه ولازمه.
قال في ذلك ابن كثير رفيقه في التلمذة على ابن تيمية وصاحب التاريخ: (لما عاد الشيخ تقي الدين بن تيمية من الديار المصرية في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لازمه إلى أن مات الشيخ فأخذ عنه علما جما، مع ما سلف من الاشتغال، فصار فريدا في بابه في فنون كثيرة، مع كثرة الطلب ليلا ونهارا وكثرة الابتهال).

لقد كان ابن القيم القائم على تركة شيخه من بعده من حيث التحرير والتأليف والمجادلة والمناظرة، ومن الجدير بالذكر أن ابن القيم أصغر من ابن تيمية بنحو ثلاثين عاما، فكان ابن تيمية منه بمنزلة الوالد الشفيق.

وقال عنه الحافظ بن حجر العسقلاني: (لو لم يكن للشيخ تقي الدين بن تيمية من المناقب إلا تلميذه الشيخ شمس الدين بن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف، لكان غاية في الدلالة على عظمة منزلته).

فضله وأخلاقه:
لقد كان الإمام ابن القيم رحمه الله عالما عاملا محبا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان هادئ الطبع، قوي الخُلُق، وصفه ابن كثير الذي كان صديقا له بقوله: (كان حسن القراءة والخُلُق، كثير التودد، لا يحسد أحدا، ولا يؤذيه، ولا يستغيبه، ولا يحقد على أحد، وكنت من أصحب الناس له، وأحب الناس إليه، ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها جدا، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك رحمه الله).

ذهب إلي بيت الله الحرام مرات كثيرة حاجا إليه تعالى، وجاور بمكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف الشيء العجيب.

لقد كان رحمه الله ذا عبادة وتهجد، لَهِج بالذكر، شغف بالمحبة والافتقار إلى الله تعالى، وقد كان رحمه الله متهما بأمراض القلوب مؤكدا على معالجتها واستئصال هذه الأمراض القلبية بالمجاهدة والرياضة الروحية، وكثرة ذكر الله تعالى ومراقبته والتوكل عليه والإنابة إليه ومحبته ومحبة أحبابه وأوليائه، ليكون القلب سليما يوم القيامة، كما وصف الله تعالى ذلك في القرآن الكريم فقال: (إلا من أتى الله بقلب سليم)، والذي يقرأ مؤلفات الإمام ابن القيم يلاحظ هذا المنزع لديه، فقد أودع ذلك في بعض كتبه من أمثال كتاب: (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين) ففيه من علم الحقيقة والشريعة الشيء الكثير.

قال عنه تلميذه ابن رجب: ( كان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر وشغف بالمحبة والإنابة والافتقار إلى الله تعالى، والانكسار له والاطَراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله في ذلك).

لقد كانت السمة البارزة فيه رحمه الله هي التواضع لإخوانه المؤمنين مع ماله من علم غزير وحجة قوية، فكان يرى نفسه مقصرا مذنبا، وأن علمه هذا سيكون حجة عليه إن لم يتداركه الله برحمة منه وفضل، وحول هذا المعنى له أبيات يقول فيها:

بُنيُّ أبي بكر كثير ذنوبه = فليس على من نال من عرضه إثم

بُنيُُّ أبي بكر غدا متصدِّرا = يُعَلِّمُ علما وهو ليس له علم

بُنيُُّ أبي بكر جهول بنفسه = جهول بأمر الله أنى له العلم

بُنيُُّ أبي بكر يروم ترقيا = إلى جنة المأوى وليس له عزم

بُنيُُّ أبي بكر لقد خاب سعيُهُ = إذا لم يكن في الصالحات له سهم

بُنيُُّ أبي بكر كما قال ربه = هلوعٌ كنودٌ وصْفُهُ الجهل والظلم

بُنيُُّ أبي بكر وأمثاله غدت = بفتواهم هذي الخليقةُ تأتم

وليس لهم في العلم باعٌ ولا التقى = ولا الزهد والدنيا لديهم هي الهم

بُنيُُّ أبي بكر غدا متمنّيا = وصال المعالي والذنوب له هم

علمه وحجته:
يقول ابن رجب عن شيخه الإمام ابن القيم: ( تفقه في الدين وبرع وأفتى، ولازم الشيخ تقي الدين، وأخذ عنه وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفا بالتفسير لا يجارى فيه، وبأصول الدين وإليه فيه المنتهى، وبالحديث ومعانيه، وفقهه ودقائق الاستنباط منه لا يلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله والعربية وله فيها اليد الطولى، وبعلم الكلام وغير ذلك، وعالما بعلم السلوك وكلام أهل التصوف وإشاراتهم ومتونه وبعض رجاله). وقال: (ما رأيت أوسع منه علما ولا أعرف بمعاني القرآن والحديث والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو بالمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله).
وقال عنه القاضي برهان الدين الزرعي: (ما تحت أديم السماء أوسع علما منه).

تولى رحمه الله الإمامة في الجوزية، كما تولى التدريس في الصدرية، وكتب بخطه من المؤلفات مالا يوصف، وصنّف تصانيف كثيرة جدا في أنواع العلوم، وكان شديد المحبة للعلم وكتابته ومطالعته وتصنيفه واقتناء الكتب، واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهرا طويلا سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم.

تلامذته الذين أخذوا عنه:
لقد تتلمذ على الإمام ابن القيم خلق كثير، وخرج من تحت يديه علماء أفذاذ، من أمثال الحافظ زين الدين عبد الرحمن بن رجب صاحب طبقات الحنابلة، وشمس الدين محمد بن عبد القادر النابلسي صاحب مختصر طبقات الحنابلة لأبي يعلى، ومنهم ابن كثير صحاب البداية والنهاية الذي شهد له وقال فيه: ( كان حسن القراءة والخلق، كثير التودد، لا يحسد أحدا ولا يؤذيه).
وابن عبد الهادي الذي قال فيه ابن رجب: ( أخذ عنه العلم خلق كثير، وكان الفضلاء يعظمونه ويتتلمذون عليه كابن عبد الهادي وغيره).
ومن أولاده الذي أخذوا عنه الحافظ إبراهيم وعبد الله الذي تولى التدريس بالصدرية بعد وفاة والده الإمام.

محنته التي تعرض لها:
لا بد أن يمتحن الله أوليائه وأصفياءه، ليرى صدق إيمانهم، فهذه سنة الله في خلقه(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الأحزاب:62).. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل".

فكان لا بد من أن يُظهر الله إخلاص وصدق الإمام، فكانت المحنة، وكان الابتلاء، حيث اضطهد مع شيخه ابن تيمية وأوذي وحبس ثلاث مرات، مرة مع ابن تيمية في قلعة دمشق، وكان في مدة سجنه منفردا عن شيخ الإسلام في مكان خاص به، ولم يُفرّج عنه إلا بعد وفاة بن تيمية، وحبس مرة ثانية بسبب فتاوى شيخه، ومرة ثالثة لإنكاره شد الرحال إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وكان رحمه الله في مدة حبسه مشتغلا بتلاوة القرآن وتدبره والتفكر في معانيهن ففتح عليه من ذلك خير كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف، والخوض في غوامضهم، وتصانيفه ممتلئة بذلك كما أشرنا سابقا.

مؤلفاته وتصانيفه:
لقد ترك ابن القيم ثروة علمية كبيرة، كان فيها خلاصة علم شيخه، وزاد فيها ثمرات دراسته، وتضمنت نوع اتجاهاته.
ولم تكن كتاباته في حومة الجدل كأكثر كتابات شيخه، بل كانت كتاباته في هدأة واطمئنان، ولذلك جاءت هادئة وإن كانت عميقة الفكرة، قوية المنحى، شديدة المنزع، وكانت حسنة الترتيب، منسقة التبويب، متساوقة الأفكار، طلية العبارة، لأنه كتبها في اطمئنان، وتجمع كتابته جمعا متناسبا بين عمق التفكير وبعد غوره، ونصوع العبارة، وحسن استقامة الأسلوب، ومن غير ضجّة ألفاظ، كما اشتملت كتاباته على نور السلف وحكمة السابقين، فهو كثير الاستشهاد بأقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وإن كان في ذلك دون شيخه، لكن على أي حال نزح من معينه، واستقى من العين الثرَّة التي فتحها هو وغيره.

تآليفه وتصانيفه:
كان ابن القيم رحمه الله من الكثرين في التأليف وقد ترك مكتبة عظيمة ورثتها الأمة من بعده وانتفع بها خلق كثير.. ومن هذه المؤلفات:
(1) تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته، و الكلام على ما فيه من الأحاديث المعلولة. مجلد.
(2) سفر الهجرتين وباب السعادتين. مجلد ضخم.
(3) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين. مجلدان. وهو شرح منازل السائرين لشيخ الإسلام الأنصاري.
(4) شرح أسماء الكتاب العزيز. مجلد.
(5) زاد المسافر إلى منازل السعداء في هدي خاتم الأنبياء. مجلد.
(6) زاد المعاد في هدي خير العباد. أربعة مجلدات.
(7) حل الأفهام في ذكر الصلاة والسلام على خير الأنام.
(8) بيان الدليل على استغناء المسابقة عن التحليل. مجلد.
(9) نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول.مجلد.
(10) إعلام الموقعين عن رب العالمين. مجلد.
(11) بدائع الفوائد. مجلدان.
(12) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة. مجلدان.
(13) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
(14) نزهة المشتاقين وروضة المحبين. مجلد.
(15) الداء و الدواء.مجلد.
(16) تحفة المودود في أحكام المولود.مجلد.
(17) مفتاح دار السعادة.مجلد ضخم.
(18) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية.مجلد.
(19) مصايد الشيطان.مجلد.
(20) نكاح المحرم.مجلد.
وغير ذلك من المؤلفات النافعة والتي يطول المقام بذكرها.

انتقاله إلى الرفيق الأعلى:
توفي رحمه الله وقت العشاء الآخرة في الثالث عشر من شهر رجب سنة 751هـ، وصلي عليه بجامع بني أمية الكبير بدمشق، عقيب صلاة الظهر، ثم صُلي عليه ثانية في جامع جرّاح، ودفن بمقبرة الباب الصغير بدمشق.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة