الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

صيغة (الأمر) في القرآن

صيغة (الأمر) في القرآن

صيغة (الأمر) في القرآن

صيغة (الأمر) في العربية هي القسمة الثالثة للفعل بعد الفعل الماضي، والفعل المضارع. ويعبر أهل اللغة عن هذه الصيغة بـ (افعل)، كقولك: اقرأ، وادرس، واذهب، ونحو ذلك من الأفعال الدالة على طلب فعل شيء محدد.

ويذكر أهل اللغة أن صيغ الأمر في اللغة العربية أربع:

أولها: فعل الأمر، كقوله سبحانه: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (الإسراء:78).

ثانيها: اسم فعل الأمر، كقوله سبحانه: {عليكم أنفسكم} (المائدة:105)، معناه: احفظوا أنفسكم من المعاصي.

ثالثها: الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، كقوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} (الحج:29).

رابعها: المصدر النائب عن فعله، كقوله تعالى: {فضرب الرقاب} (محمد:4)، أي: فاضربوا رقابهم.

وقد أجمع أهل العلم على أن من أراد أن يطلب فعلاً من غيره، لا يجد لفظاً موضوعاً لإظهار مقصوده سوى ما كان على وَفَق صيغ الأمر هذه.

ثم إن جمهور أهل أصول الفقه قالوا: الأصل في صيغة الأمر أن تفيد وجوب فعل المأمور، فقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} (البقرة:43)، يفيد وجوب فعل هذه الأمور الثلاثة، ونحو ذلك في كل فعل (أَمْر) الأصل فيه أن يفيد الوجوب.

ثم قالوا بعد ذلك: إن صيغة الأمر قد تخرج عن معنى الوجوب، وتفيد معنى آخر، إذا قامت قرينة تدل على أن الوجوب غير مراد، كما سيتبين ذلك قريباً.

وقد قرر المفسرون الشيء نفسه بخصوص دلالة صيغة الأمر، فقالوا: إن الأصل في هذه الصيغة عند ورودها في القرآن أن تدل على وجوب الفعل، لكنها قد تدل على غير معنى الوجوب، إذا قامت قرينة تدل على أن المراد غير الوجوب.

ومن خلال تتبع كلام المفسرين -وكلام العرب- نجد أن صيغة الأمر في القرآن الكريم تأتي على عدة معان غير الوجوب، وهذه المعاني هي:

الأول: معنى الإباحة، ويعبر أهل التفسير عن هذا المعنى بقولهم: "وهذا أمر إباحة"، ويمثلون لهذا المعنى عادة، بقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} (المائدة:2)، أي: إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه، فقد أبحنا لكم ما كان محرماً عليكم في حال الإحرام من الصيد، فـ (الأمر) بالاصطياد ليس في الآية على معنى الوجوب، وإنما على معنى الإباحة. ويمثلون لهذا المعنى أيضاً، بقوله سبحانه: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} (الجمعة:10)، يقول المفسرون هنا: صيغة الأمر بمعنى الإباحة؛ لأن إباحة الانتشار زائلة بفرضية أداء الصلاة، فإذا زال ذلك عادت الإباحة، فيباح لهم أن يتفرقوا في الأرض، ويبتغوا من فضل الله. وهو الرزق، كذلك قوله سبحانه في الآية نفسها: {وابتغوا من فضل الله} (الجمعة:10)، فإنه صيغة أمر بمعنى الإباحة أيضاً؛ لإباحة جلب الرزق بالتجارة بعد المنع، بقوله تعالى: {وذروا البيع} (الجمعة:9). والمفسرون بهذا الصدد يقررون قاعدة هنا، فيقولون: الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة.

ولا بد أن نشير هنا إلى أن مجيء فعل الأمر بعد النهي عن فعل ما، للعلماء فيه أقوال؛ فمنهم من يقول إنه يفيد الوجوب؛ ومنهم من يقول: إنه للإباحة، ويجعلون تقدم النهي عليه قرينة صارفة له من الوجوب. والذي ينهض عليه الدليل -كما قال ابن كثير- أن الأمر بعد النهي يرد عليه الحكم إلى ما كان عليه الأمر قبل النهي؛ فإن كان واجباً، فواجب، كقوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} (التوبة:5)، أو مباحاً فمباح كقوله: {وإذا حللتم فاصطادوا}. كما أن بعض أهل التفسير يرى أن الإباحة غير مستفادة من مجيء الأمر بعد النهي، وإنما مستفادة من النظر إلى المعنى والإجماع.

الثاني: معنى التهديد، ويُعبر المفسرون عن هذا المعنى بقولهم: وهذا لفظ أمر، والمراد منه التهديد. وصيغة الأمر لا لمعنى الطلب، بل لمعنى التهديد كثيرة في كتاب الله. والمثال القرآني الأبرز على هذا الأسلوب قوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف:29)، فالأمر هنا ليس أمر غير وارد على سبيل الوجوب؛ إذ لو كانت صيغة (الأمر) تفيد ذلك، لكن فيه أمر الله عباده بالكفر، وهذا لا يكون منه سبحانه؛ إذ هو سبجانه لا يأمر بالفحشاء، بل يأمر بالقسط؛ وبالتالي يكون معنى الأمر في الآية التهديد، كما يقول الوالد لولده: أمضِ وقتك في اللعب واللهو! فسوف ترى عاقبة ذلك. وقد نُقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: هذه الصيغة تهديد ووعيد، وليست بتخيير.

وبحسب هذا المعنى لصيغة الأمر فسروا أيضاً قوله سبحانه: {اعملوا ما شئتم} (فصلت:40)، فهذا تهديد في صيغة الأمر بإجماع أهل العلم - كما قال ابن عطية - ودليل الوعيد ومبينه قوله تعالى بعدُ: {إنه بما تعملون بصير} (فصلت:40).

ومن هذا القبيل أيضاً، قوله سبحانه: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} (الإسراء:64)، قال الشنقيطي: "إن صيغ الأمر في قوله: {واستفزز}، وقوله: {وأجلب}، وقوله: {وشاركهم} إنما هي للتهديد. أي: افعل ذلك، فسترى عاقبته الوخيمة".

وعلى هذا حمل المفسرون قوله سبحانه: {اعملوا على مكانتكم} (الأنعام:135)، وقوله تعالى: {فليضحكوا قليلا} (التوبة:82)، وقوله سبحانه: {ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا} (النحل:55)، وقوله تعالى: {فاعبدوا ما شئتم من دونه} (الزمر:15)، ونحو ذلك غير قليل.

الثالث: معنى التسوية، ترد صيغة الأمر ويراد بها التسوية بين فعلين متناقضين، على معنى عدم المنع من فعل أحدهما؛ كقولك: جالس خالداً أو بكراً، ومن الآيات القرآنية الواردة على هذا المعنى، قوله تعالى: {قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم} (التوبة:53)، وقوله سبحانه: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} (التوبة:80)، وقوله تعالى: {فاصبروا أو لا تصبروا} (الطور:16)، وقوله تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به} (الملك:13). فصيغة (الأمر) في هذه الآيات واردة على سبيل التسوية بين الفعلين المأمور بهما، على معنى أن المأمور له أن يفعل هذا الفعل أو ذاك. وهذا غالب أحوال صيغة (افعل) إذا جاءت معها (أو) عاطفة نقيض أحد الفعلين على نقيضه.

الرابع: معنى الدعاء، تأتي صيغة الأمر أحياناً لتفيد معنى الدعاء، وذلك إذا اُستعملت في طلب الفعل على سبيل التضرع نحو: {رب اغفر لي ولوالدي} (نوح:28)، وقوله سبحانه: {رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصير} (الإسراء:80)، وكل صيغ (الأمر) الواردة على معنى التضرع إلى الله لقضاء حاجة، تدخل تحت هذا المعنى لصيغة الأمر.

وقد تأتي صيغة الأمر التي هي بمعنى الدعاء مفيدة معنى الالتماس، كما في قوله تعالى: {فأوف لنا الكيل وتصدق علينا} (يوسف:88).

الخامس: معنى التعجيز، والمراد من هذا المعنى أن صيغة (الأمر) يؤتى بها أحياناً لا على سبيل الحقيقة، وإنما على سبيل المجاز، والمثال القرآني الأبرز على هذا المعنى قوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} (البقرة:23)، فالفعل {فأتوا} صيغتة الأمر، ومعناه التعجيز. وعلى هذا المعنى قوله سبحانه: {فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء} (البقرة:31)، فالفعل: {أنبئوني} أمر تعجيز، بقرينة كون المأمور يعلم أن الآمر عالم بذلك. وعلى هذا المعنى أيضاً قوله عز وجل: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا} (الرحمن:33). ومنه كذلك، قوله سبحانه: {قل كونوا حجارة أو حديدا} (الإسراء:50)، قال البغوي: وليس هذا بأمر إلزام، بل هو أمر تعجيز. والمعنى: إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاماً ولحماً، فكونوا أنتم حجارة أو حديداً إن قدرتم.

وبما تقدم يتبين أن صيغ الأمر في القرآن الكريم لا تأتِ دوماً على معنى الوجوب، بل ينبغي التأمل في السياق الواردة فيه ليتبين أي معنى يراد منها، كما أن عدم الوجوب قد لا يستفاد من السياق نفسه، وإنما من أدلة خارجية تصرف الوجوب إلى الإباحة أو معنى آخر غير الوجوب.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة