الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المناهج العامة للمحدثين

المناهج العامة للمحدثين

المناهج العامة للمحدثين

رغم تنوع مناهج المحدثين واختلاف أساليبهم وطرقهم، إلا أنهم اتفقوا على مبادئ ومناهج لم يحيدوا عنها، ورغم أنهم لم يدونوا تلك المناهج أو يسطِّروها في كتبهم، إلا أنهم ورثوها عمليا لطلابهم ومن أتى بعدهم، فصارت تلك المناهج سمة للمشتغلين بهذا الفن الجليل، يأخذه اللاحق عن السابق، وهذا لم ينف وجود مناهج خاصة لكل إمام منهم، التزم بها وسلكها في مروياته أو مصنفاته، وحسبنا في هذا المقال أن نقف على مناهجهم العامة التي اتفقوا عليها، ثم نُعرِّج فيما بعد على مناهجهم الخاصة.

يقصد بالمناهج العامة للمحدثين: الأساليب والطرق التي سلكها جميع المحدثين أو اتفقوا عليها في طلب الحديث أو روايته أو كتابته وضبطه أو تحمله وأدائه، وسوف نتعرض لأبرز تلك المناهج وفق النقاط التالية:

أولا: منهجهم في طلب الحديث:

1- إخلاص النية في طلب الحديث الشريف: كان المحدثون يحثون طلبة الحديث على إخلاص النية لله جل وعلا في طلب الحديث، حتى يحذَروا من الدخول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلّمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة -أي ريحها- يوم القيامة) رواه أبو داود وابن ماجه.

2- التدرج في طلب الحديث والصبر عليه: دأب المحدثون على البدء بصغار العلم قبل كباره، والتدرج في الطلب، وكان الإمام الزهري يقول: "من طلب العلم جملة فاته جملة، وإنما يُدرك العلم حديثٌ وحديثان"، وقال أيضا: "إن هذا العلم إن أخذته بالمكابرة له غلبك، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذاً رفيقاً تظفر به"، وقال معمر بن راشد: "من طلب الحديث جملة ذهب منه جملة، إنما كنا نطلب حديثاً وحديثين"، ويقول الإمام النووي: "وينبغي أن يقدّم -أي طالب الحديث- العناية بالصحيحين، ثم سنن أبي داود والترمذي والنسائي، ضبطاً لمشكلها وفهماً لخفي معانيها.. "، ويجدر بكل من طلب الحديث أن يرجع إلى كتاب الخطيب البغدادي "الرحلة في طلب الحديث"، وإلى كتاب الشيخ عبد الفتاح أبو غدة "صفحات من صبر العلماء".

3- العمل بالعلم: كانوا يعملون بكل ما يروون من الأحاديث، قال الإمام ابن الصلاح: "وليستعمل ما يسمعه من الأحاديث الواردة بالصلاة والتسبيح وغيرهما من الأعمال الصالحة، فذلك زكاة الحديث"، وقال وكيع: "إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به".

4- الحفظ والاستظهار: كانوا يعتمدون على الحفظ في تلقي الحديث، قال الإمام الأوزاعي: "ما زال هذا العلم عزيزاً تلقّاه الرجال، حتى وقع في الصحف فحمله ودخل فيه من هو غير أهل له"، وقال هُشيم بن بشير: "من لم يحفظ الحديث فليس هو من أصحاب الحديث"، ولا يعني هذا إهمال الكتابة، قال الخليل: "ما سمعت شيئا إلا كتبته، ولا كتبته إلا حفظته، وما حفظته إلا نفعني".

5- المناصحة وبذل الفائدة: حث المحدثون طلبة الحديث على المناصحة، وإفادة بعضهم بعضا، قال عبد الله بن المبارك: "إن أول منفعة الحديث أن يفيد بعضكم بعضا".

6- تعظيم المحدث وتبجيله: كانوا يجلُّون المحدث لما في صدره من العلم، قال الإمام النووي: "وينبغي أن يعظِّم شيخه ومن يسمعُ منه، فذلك من إجلال العلم، وبه يُفتح على الإنسان، وينبغي أن يعتقد جلالة شيخه ورُجحانه، ويتحرّى رضاه، فذلك أعظم الطرق إلى الانتفاع به".

ثانيا: منهجهم في التحديث:

1- عدم التصدي للتحديث قبل التأهل لذلك: كانوا لا يتعجلون الجلوس للتحديث قبل تأهلهم لذلك وإجازتهم، قال الإمام ابن الصلاح: "اختُلف في السن الذي إذا بلغه استُحب له التصدي لإسماع الحديث والانتصاب لروايته، والذي نقوله: إنه متى احتيج إلى ما عنده استُحبَّ له التصدي لروايته ونشره في أي سنٍّ كان".

2- الإمساك عن التحديث عند خوف الاختلاط: كانوا يتورّعون عن التحديث إذا كبرت أعمارهم، قال ابن أبي ليلى: "كنا نجلس إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه فنقول: حدِّثنا حدِّثنا، فيقول: إنا قد كبِرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد"، وقال الإمام النووي: "وينبغي له أن يُمسك عن التحديث إذا خُشي عليه الـهَرَم والخَـرَف والتخليط، ورواية ما ليس من حديثه، وذلك يختلف باختلاف الناس".

3- توقير من هو أولى منه والدلالة عليه: قال سفيان الثوري لسفيان بن عيينة: "ما لك لا تُحدِّث؟ فقال: أمَا وأنت حيٌّ فلا"، وقال الإمام النووي: "ولا ينبغي للمحدِّث أن يحدث بحضرة من هو أولى منه بذلك. وقيل: يُكره أن يحدث ببلد فيه من هو أولى منه لسنِّه أو غير ذلك".

4- توقير مجلس التحديث: كان الإمام مالك بن أنس رحمه الله إذا أراد أن يحدِّث توضأ وجلس على صدر فراشه، وسرّح لحيته، وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة، وحدّث. فقيل له فقال: أحبُّ أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقال الإمام ابن الصلاح: "ولا يسرد الحديث سردا يمنع السامع من إدراك بعضه، وليفتتح مجلسه وليختمه بذكر ودعاء يليق بالحال".

5- عدم التعجل في التصنيف: كانوا لا يتعجلون التصنيف حتى تكتمل ملكاتهم ويتأهلون لذلك، قال الإمام النووي: "وليشتغل بالتخريج والتصنيف إذا استعد لذلك وتأهل له"، وقال الخطيب البغدادي: "وقلّ ما يتمهَّر في علم الحديث، ويقف على غوامضه، ويستبين الخفيّ من فوائده إلا من جمع متفرِّقه، وألّف مشتته، وضمّ بعضه إلى بعض..".

6- العناية بطلاب الحديث: كان المحدثون يعتنون بطلابهم، ويستغلون ملكة الحفظ والفهم في وقت مبكر من أعمار طلابهم، وكان الحسن البصري يقول: "قدموا إلينا أحداثكم، فإنهم أفرغ قلوبا، وأحفظ لما سمعوا، فمن أراد الله عز وجل أن يُــتمَّ ذلك له أتـمَّه".

ثالثا: منهجهم في رواية الحديث:

1- عدم الإكثار من الرواية والاقتصار على قدر الحاجة: كانوا يقللون من الرواية امتثالا لما روي عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: (إياكم وكثرة الحديث عني، فمن قال عليّ فليقل حقا – أو صدقا – ومن تقوّل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار) رواه ابن ماجة والحاكم، ولا يخرم هذا المنهج وجود بعض المكثرين من الصحابة أو التابعين ومن بعدهم، لأن مروياتهم قد احتيج إليها، إضافة إلى أن عدد هؤلاء المكثرين قليل جدا، فلا يكون ذلك خرقا لعدم الميل إلى الإكثار.

2- التثبت من صحة الرواية: كانوا يبذلون كل ما في وسعهم للتثبت من صحة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"، ولم تكن بُعد المسافة عن الرواة مانعا من التثبت، فقد سنُّوا رضي الله عنهم الرحلة في طلب الحديث، حتى أن شعبة بن الحجاج رحل ألف فرسخ في حديث واحد، وكتاب الخطيب البغدادي " الرحلة في طلب الحديث" أكبر شاهد على ذلك.

3- نقد الروايات: كانوا يعرضون ما يسمعونه من بعضهم من الحديث على ما يحفظونه من الكتاب والسنة وما رسخ في أذهانهم من قواعد هذا الدين الحنيف، فما وجدوه موافقا أخذوا به، وما وجدوه مخالفا توقفوا فيه.

4- عدم التحديث بما يفوق أفهام العامة: أمسك بعض الصحابة والتابعين ومن بعدهم عن التحديث بما يكون ذريعة للتقصير والتهاون بسبب قصور النظر، أو يكون سُلَّما لأهل الأهواء والبدع ومن على شاكلتهم، حتى لا تكون فتنة في الأرض وفساد كبير، وفي هذا يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمحدث قوما حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قُطع هذا البلعوم"، والمراد أنه لم يحدث به كل أحد، بل حدّث به خاصة أصحابه، وذلك ما يتعلق بالفتن وما شجر بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

5- التقميش عند جمع الحديث والتفتيش عند الاحتجاج به: كانوا يكتبون كل ما يسمعون دون تمييز، ولكنهم يميِّزون المقبول من غيره إذا أرادوا التحديث، قال الإمام أبو حاتم الرازي: "إذا كتبت فقمِّش، وإذا حدَّثت ففتِّش".

6- الاحتياط عند الشك وتوقير من يحدّثون عنه: كانوا يحتاطون عند التحديث حتى لا يتقوّلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، فعن عمرو بن ميمون قال: ما أخطأني ابن مسعود عشية خميس إلا أتيته فيه، فما سمعته يقول بشيء قط قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان ذات عشية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فنكس. فنظرت إليه فهو قائم محللة أزرار قميصه قد اغرورقت عيناه وانتفخت أوداجه، قال أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريبا من ذلك، أو شبيها بذلك، وقال الإمام النووي: "ينبغي له إذا اشتبه عليه لفظة فقرأها على الشك أن يقول عقيبه: أو كما قال، كما فعل الصحابة فمن بعدهم".

رابعا: منهجهم في كتابة الحديث وضبطه:

1- آداب كتابة الحديث: كانوا يحافظون على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكره، وكانوا يستحبون أن يكون الخط محققا، وكانوا يتّسمون بحسن الخط والدقة العالية.

2- ضبط الحروف المهملة والفصل بين الأحاديث: كانوا لا يقتصرون على ضبط الحروف المعجمة بالنقاط، بل كانت الحروف المهملة لها علامة أيضا، وكان من عادتهم أن يضعوا دائرة بين كل حديثين للفصل بينهما.

3- التصحيح والتضبيب: كانت لهم علامات في مروياتهم التي دوَّنوها، ومن ذلك التصحيح، فإنه يكون بكتابة "صح" على الكلام أو مقابله في الحاشية، ولا يُفعل ذلك إلا فيما صح رواية ومعنى، غير أنه عرضة للشك أو الخلاف، فيُكتب عليه "صح" ليُعرف أنه لم يغفل عنه، وأنه قد ضُبط وصَحَّ على هذا الوجه.
وأما التضبيب -ويسمى أيضا التمريض- فهو أن يُجعل رمز "صــ" فوق الكلام الذي صح وروده من جهة النقل، غير أنه فاسد لفظا أو معنى أو ضعيف أو ناقص، أو أن يكون في الإسناد إرسال أو انقطاع.

4- الجمع بين اختلاف الروايات: كانوا لا يخلطون بين الروايات ولا يلفِّقون بينها، وإذا وصل إلى أحدهم الحديث من عدة طرق وبألفاظ مختلفة، فإنه يعتمد أوثق الروايات عنده، ثم يبين ما وقع فيه التخالف من زيادة أو نقص أو إبدال لفظ بلفظ أو حركة إعراب أو نحوها، وقد يستعمل بعضهم خطوطا بألوان مختلفة يدل كل منها على رواية مختلفة.

5- الإشارة بالرمز: كانوا يختصرون بعض الكلمات التي يكثر ذكرها، في الكتابة فقط، وينطقون بها كاملة دون اختصار، ومن ذلك: حدثنا = ثنا = نا = دثنا، أخبرنا = أنا = أرنا، (ح) عند تحويل السند، ولا يدخل في ذلك اختصار الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يفعل ذلك أحد من السابقين.

خامسا: منهجهم في التحمل والأداء:

تنحصر مناهج المحدثين في التحمل والأداء بثماني طرق، وهي:

1- السماع من الشيخ: هي أن يحدث الشيخ بلفظه، فيملي على تلاميذه إملاء وهم يكتبون، أو يحدثهم من غير إملاء وهم يسمعون، وقد يُملي عليهم أو يحدثهم من حفظه غيبا، أو يُملي عليهم أو يحدثهم من كتابه، وهي الطريقة التي تحمل بها الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين الحديث غالبا، فكانوا يسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحدثهم به.

2- القراءة على الشيخ: هي أن يقرأ الطالب حديث الشيخ على الشيخ نفسه أو يقرأ غير الشيخ عليه والطالب يسمع، وأكثر المحدثين يُسمونها عرضا، لأن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرأه، كما يعرض القرآن على المقرئ، وهذه الصورة أدنى في المرتبة من السماع من الشيخ، على خلاف في ذلك.

3- الإجازة: هي الإذن في الرواية من غير سماع ولا قراءة، وقد اعتمدها العلماء بعد كتابة الحديث في المصنفات، وهي في الجملة إخبار على سبيل الإجمال بهذا الكتاب أو الكتب أنها من روايته، فتنزل منزلة إخباره بكل الكتاب، نظرا لوجود النُّسخ، والمقصود بالإجازة إباحة الرواية لا أن يصير الـمـُجاز بالكتاب عالما به بمجرد الإجازة، وفي هذه العصور المتأخرة يحذِّر المحدثون من تطفُّل الكثيرين على الإجازة، خوفا من سوء استغلالها.

4- المناولة: وهي أن يدفع الشيخ للطالب كتابا فيه أحاديث ليرويَها عنه، وقد تكون المناولة مقرونة بالإجازة، وقد تكون مجردة عنها.

5- المُكاتبة: وهي أن يسأل الطالبُ الشيخَ أن يكتب له شيئا من حديثه، أو يبدأ الشيخُ بكتابة ذلك مفيداً للطالب، بحضرته أو من بلد آخر، بخط الشيخ أو بخط غيره بأمره، وقد تكون المكاتبة مقرونة بالإجازة، وقد تكون مجردة عنها.

6- الإعلام: هو إعلام الشيخِ الطالبَ أن هذا الحديث من روايته، وأن هذا الكتاب سماعه فقط، دون أن يأذن له في الرواية عنه، أو يأمره بذلك، أو يقول له الطالب: هو روايتك أحمله عنك؟ فيقول له: نعم، أو يقره على ذلك ولا يمنعه.

7- الوصية: هي أن يوصيَ الشيخُ بدفع كتبه عند موته أو سفره لرجل.

8- الوجادة: هي الوقوف على كتاب بخط محدث مشهور يعرف خطه ويصححه وإن لم يلقه أو يسمع منه، أو لقيه ولكن لم يسمع منه كتابه هذا، وكذلك إذا وجد كتب أبيه وجدِّه بخط أيديهم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة