الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة

فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة

فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة

في سياق حديث القرآن الكريم عن المحرمات من النساء، جاء في آخر تلك المحرمات قوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما} (النساء:24). وقد نُقل عن مجاهد قوله: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية، لضربت إليه أكباد الإبل، قوله: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} إلى قوله: {فما استمتعتم به منهن}.

وقد تضمنت هذه الآية الكريمة حكماً كان محل نظر واجتهاد في فهم المراد منه، وهو قوله تعالى: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة}. ووقفتنا مخصصة للحديث عن المراد من هذا الجزء من الآية الكريمة.

معنى (الاستمتاع) لغة

(الاستمتاع) في اللغة: الانتفاع، وكل ما انتفع به فهو متاع، و(السين) و(التاء) فيه للمبالغة، وسمي الله (النكاح) استمتاعاً؛ لأنه منفعة دنيوية، وجميع منافع الدنيا متاع، قال تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (آل عمران:185)، يقال: استمتع الرجل بولده، ويقال فيمن مات في زمان شبابه: لم يتمتع بشبابه. قال تعالى: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} (الأحقاف:20)، يعني: تعجلتم الانتفاع بها.

المراد من (الاستمتاع) في الآية

ذكر المفسرون في المراد من (الاستمتاع) في الآية قولين:

أحدهما: أن المراد به (النكاح) الشرعي الصحيح، والمعنى: فما نكحتم من النساء فآتوهن أجورهن، أي: مهورهن. وهذا القول هو الأصوب في المراد بلفظ (الاستمتاع) في هذه الآية. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: إذا تزوج الرجل منكم المرأة، ثم نكحها مرة واحدة، فقد وجب صداقها كله. ويكون معنى الآية كقوله سبحانه: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} (النساء:4). وقال ابن زيد: (الاستمتاع): النكاح، وما في القرآن إلا نكاح. إذا أخذتها، واستمتعت بها، فأعطها أجرها الصداق. فإن وضعت لك منه شيئاً، فهو لك سائغ.

الثاني: أن المراد بـ (الاستمتاع) هنا: اللذة والتمتع بالمرأة بغير النكاح المعهود. روى الطبري عن أبي نضرة، قال: سألت ابن عباس عن متعة النساء، فقال: أما تقرأ سورة النساء؟ قال: قلت: بلى! قال: فما تقرأ فيها: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى)؟ قلت: لا! لو قرأتها هكذا ما سألتك! قال: فإنها كذا. وفي رواية قال: قرأت هذه الآية على ابن عباس: {فما استمتعتم به منهن}. قال ابن عباس: (إلى أجل مسمى). قال: قلت: ما أقرؤها كذلك! قال: والله لأنزلها الله كذلك! ثلاث مرات. وعن مجاهد، قال: {فما استمتعتم به منهن}، قال: يعني نكاح المتعة.

معنى نكاح المتعة

والمراد بـ (نكاح المتعة): أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين، فيجامعها. وإن شئت قل: هو تعاقد رجل وامرأة على أن تكون العصمة بينهما مؤجلة بزمان أو بحالة، فإذا انقضى ذلك الأجل، ارتفعت العصمة بينهما، وذهب كل منهما بسبيله. وعلى المرأة أن تستبرئ ما في رحمها، وليس بينهما ميراث.

القول المعتمد في المراد من الآية

بعد أن ذكرالطبري القولين الواردين في معنى (الاستمتاع)، قال: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من تأوله: فما نكحتموه منهن فجامعتموه، فآتوهن أجورهن؛ لقيام الحجة بتحريم الله متعة النساء على غير وجه النكاح الصحيح على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وعقب الطبري على قراءة (إلى أجل مسمى) بقوله: وأما ما روي عن أُبي بن كعب وابن عباس رضي الله عنهما من قراءتهما: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى)، فقراءة بخلاف ما جاءت به مصاحف المسلمين. وغير جائز لأحد أن يُلحق في كتاب الله تعالى شيئاً، لم يأت به الخبر القاطع العذر عمن لا يجوز خلافه.

وهذا الذي رجحه شيخ المفسرين، هو الذي ذهب إليه جمهور أهل العلم. قال ابن كثير في هذا الصدد: "وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة، ولا شك أنه كان مشروعاً في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك. وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نُسخ، ثم أبيح ثم نسخ، مرتين". والعمدة في ذلك ما ثبت في "الصحيحين"، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر) متفق عليه.

وفي صحيح مسلم عن سبرة بن معبد الجهني: أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأيها الناس، إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء، فليخلِّ سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً)، وفي رواية أخرى لـ مسلم أن ذلك كان في حجة الوداع، قال أبو داود: هذا أصح ما روي في ذلك، أي أن التحريم النهائي كان حجة الوداع.

وقالت عائشة رضي الله عنها: "تحريمها ونسخها في القرآن؛ وذلك في قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} (المؤمنون:5-6)، وليست المتعة نكاحاً، ولا ملك يمين".

وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (ما كانت المتعة إلا رحمة من الله تعالى، رحم بها عباده، ولولا نَهْيُ عمرَ عنها، ما زنى إلا شقي).

وقال ابن العربي: "وأما متعة النساء، فهي من غرائب الشريعة؛ لأنها أبيحت في صدر الإسلام، ثم حُرمت يوم خيبر، ثم أبيحت في غزوة أوطاس، ثم حرمت بعد ذلك، واستقر الأمر على التحريم، وليس لها أخت في الشريعة إلا مسألة القبلة، لأن النسخ طرأ عليها مرتين ثم استقرت بعد ذلك..وقد كان ابن عباس يقول بجوازها، ثم ثبت رجوعه عنها، فانعقد الإجماع على تحريمها؛ فإذا فعلها أحد رجم في مشهور المذهب".

ونقل ابن حجر عن الحازمي قوله: "إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم، وإنما أباحها لهم في أوقات بحسب الضرورات، حتى حرمها عليهم في آخر الأمر تحريم تأبيد. وأما ما روي أنهم كانوا يستمتعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى نهى عنها عمر رضي الله عنه، فمحمول على أن الذي استمتع، لم يكن بلغه النسخ، ونَهْيُ عمرَ كان لإظهار ذلك، حيث شاعت المتعة ممن لم يبلغه النهي عنها. ومعنى (أنا محرمها) في كلامه إن صح، أي: مُظْهِرٌ تحريمها، لا منشئه، كما يزعم بعض من لا خلاق له".

وقال النووي: "الصواب أن تحريمها وإباحتها وقعا مرتين، فكانت مباحة قبل خيبر، ثم حُرِّمت فيها، ثم أبيحت عام الفتح، ثم حرمت تحريماً مؤبداً. قال: ولا مانع من تكرير الإباحة".

وعلة إباحتها - كما ذكر ابن حجر - أنهم كانوا إذا غزوا، اشتدت عليهم العزبة، فأذن لهم في الاستمتاع، وكان النهي يتكرر في كل موطن بعد الإذن، فلما وقع في المرة الأخيرة أنها حرمت إلى يوم القيامة، لم يقع بعد ذلك إذن.

وقال الماوردي في "الحاوي": "في تعيين موضع تحريم المتعة وجهان: أحدهما: أن التحريم تكرر؛ ليكون أظهر وأنشر، حتى يعلمه من لم يكن علمه؛ لأنه قد يحضر في بعض المواطن من لا يحضر في غيرها. والثاني: أنها أبيحت مراراً؛ ولهذا قال في المرة الأخيرة: (..وإن الله تبارك وتعالى قد حرم ذلك إلى يوم القيامة..) رواه أحمد؛ إشارة إلى أن التحريم الماضي، كان مؤذناً بأن الإباحة تعقبه، بخلاف هذا فإنه تحريم مؤبد لا تعقبه إباحة أصلاً". قال ابن حجر: وهذا الثاني هو المعتمد. وقد أفاض الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" في بيان النسخ مفصلاً.

وقد ذكر ابن عاشور أن الروايات الواردة في شأن نكاح المتعة مضطربة اضطراباً كبيراً، وأن "الذي يُستخلص من مختلف الأخبار، أن المتعة أذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، ونهى عنها مرتين، والذي يفهم من ذلك أن ليس ذلك بنسخ مكرر ولكنه إناطة إباحتها بحال الاضطرار، فاشتبه على الرواة تحقيق عذر الرخصة بأنه نسخ. وقد ثبت أن الناس استمتعوا في زمن أبي بكر، وعمر، ثم نهى عنها عمر في آخر خلافته".

هل الآية دالة على جواز نكاح المتعة؟

اعتمد القائلون بجواز نكاح المتعة بإطلاق على هذه الآية - إضافة إلى أحاديث أخر - فهل الآية دالة على ذلك بالفعل، أما أن سياقها لا يسمح بالقول بذلك؟ يرى ابن عاشور أن هذه الآية بمعزل عن أن تكون نازلة في نكاح المتعة، وليس سياقها سامحاً بذلك، ولكنها صالحة لاندراج المتعة في عموم {ما استمتعتم}، فيُرجع في مشروعية نكاح المتعة إلى الأخبار الواردة في ذلك. وقال الآلوسي: "وهذه الآية لا تدل على الحل، والقول بأنها نزلت في المتعة غلط، وتفسير البعض لها بذلك غير مقبول؛ لأن نظم القرآن الكريم يأباه".

وقال ابن خويزمنداد - وهو مالكي -: "ولا يجوز أن تُحْمَلَ الآية على جواز المتعة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة وحرمه؛ ولأن الله تعالى قال: {فانكحوهن بإذن أهلهن} (النساء:25)، ومعلوم أن النكاح بإذن الأهلين هو النكاح الشرعي بولي وشاهدين، ونكاح المتعة ليس كذلك".

وقريب من هذا قول الرازي: "والذي يجب أن يُعتمد عليه، أن نقول: إنا لا ننكر أن المتعة كانت مباحة، إنما الذي نقوله: إنها صارت منسوخة. وعلى هذا التقدير، فلو كانت هذه الآية دالة على أنها مشروعة، لم يكن ذلك قادحاً في غرضنا. وهذا هو الجواب أيضاً عن تمسكهم بقراءة أُبيٍّ وابن عباس رضي الله عنهم، فان تلك القراءة بتقدير ثبوتها، لا تدل إلا على أن المتعة كانت مشروعة، ونحن لا ننازع فيه، إنما الذي نقوله: إن النسخ طرأ عليه".

قول ابن عباس رضي الله عنهما في المتعة

قال الشوكاني: "وقد روي عن ابن عباس أنه قال بجواز المتعة، وأنها باقية لم تنسخ. وروي عنه أنه رجع عن ذلك عندما بلغه الناسخ. وقد قال بجوازها جماعة من الروافض، ولا اعتبار بأقوالهم. وقد أتعب نفسه بعض المتأخرين بتكثير الكلام على هذه المسألة، وتقوية ما قاله المجوّزون لها، وليس هذا المقام مقام بيان بطلان كلامه".

وذكر الإمام الرازي أن المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ثلاثُ روايات:

أحدها: القول بالإباحة المطلقة، قال عمارة: سألت ابن عباس عن المتعة: أسفاح هي أم نكاح؟ قال: لا سفاح ولا نكاح، قلت: فما هي؟ قال: هي متعة كما قال تعالى، قلت: هل لها عدة؟ قال: نعم، عدتها حيضة، قلت: هل يتوارثان؟ قال لا.

الثانية: إنها تحل للمضطر كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير له.

الثالثة: أنه أقر بأنها صارت منسوخة. روى عطاء الخرساني عن ابن عباس في قوله سبحانه: {فما استمتعتم به منهن} قال: صارت هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} (الطلاق:1). وروي أيضاً أنه قال عند موته: اللهم إني أتوب إليك من قولي في المتعة والصرف. وقد تقدم قول ابن العربي أن الصحيح رجوعه عن القول بها.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة