الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فاستقم كما أمرت

فاستقم كما أمرت

فاستقم كما أمرت

روي أن بعض العلماء رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال له: يا رسول الله! بلغنا عنك أنك قلت: شيبتني هود وأخواتها، فما الذي شيبك منها: قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ فقال له: لا، ولكن قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت} (هود:112).

وقد ورد في شأن الاستقامة قوله سبحانه أيضاً: {واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم} (الشورى:15)، وقوله عز وجل: {أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه} (فصلت:6)، وقوله تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا} (الجن:16).

و(الاستقامة) تعني السداد والاعتدال، وتعني أيضاً: تجنب الإفراط والتفريط في الأمور كلها، وتعني أيضاً: إقامة التكاليف، والتزام شرع الله أمراً ونهياً. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الاستقامة، أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب.

والملاحظ أن آيتي هود والشورى وردتا في سياق الحديث عن الذين اختلفوا في الكتاب، وتفرقوا في دينهم، فآية سورة هود وردت بعد قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه} (هود:110)، وآية الشورى وردت عقب قوله سبحانه: {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} (الشورى:14). فجاءت كلتا الآيتين تأمران بالتمسك بالشرع الحنيف، والبعد عن التفرق والاختلاف، والعمل بما أمر به سبحانه. قال الرازي في "تفسيره": فلأجل ذلك التفرق، ولأجل ما حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين، فادع إلى الاتفاق على الملة الحنيفية، واستقم عليها وعلى الدعوة إليها، كما أمرك الله، ولا تتبع أهواءهم المختلفة الباطلة.

والملاحظ أيضاً أن كلتا الآيتين وجهتا الخطاب للنبي صلى الله وسلم {فاستقم}، {واستقم}، ولا شك، فإنه صلى الله عليه وسلم كان مستقيماً على نهج الشريعة، بل هو إمام المستقيمين، ورائد المطبقين لشرع الله، غير أن توجُّه الخطاب إليه هنا على معنى الدوام على الاستقامة، والثبات على التمسك بالإسلام على وجه قويم.

قال بعض المفسرين: عبر عن ذلك بالاستقامة؛ لإفادة الدوام على العمل بتعاليم الإسلام، دواماً جِماعهُ الاستقامة عليه، والحذر من تغييره.

وقال ابن عاشور: ووُجّه الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ تنويهاً بشأنه، ليبني عليه قوله: {كما أمرت}، فيشير إلى أنه المتلقي للأوامر الشرعية ابتداء. وهذا تنويه له بمقام رسالته، ثم أُعلم بخطاب أمته بذلك بقوله: {ومن تاب معك}.

وقد وردت بعض الأحاديث والآثار المتعلقة بقوله تعالى: {فاستقم كما أمرت}، من ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية أشد من هذه الآية، ولا أشق، يعني قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت}.

ومنها ما رواه الطبري عن سفيان الثوري في قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت}، قال: استقم على القرآن.

ومنها ما رواه الدارمي عن بعضهم، قال: دخلت على ابن عباس رضي الله عنه، فقلت: أوصني! فقال: نعم! عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع.

ومنها ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري، أنه قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فاستقم كما أمرت}، قال: (شمروا، شمروا)، وما رُئي بعدها ضاحكاً.

وهذه الأخبار والآثار تبين أهمية الاستقامة في حياة المسلم، وأن الاستقامة أصل عظيم من أصول هذه الشريعة، ويكفي في بيان مكانتها بشارة الله للمؤمنين بدينه، والمستقيمين على نهجه: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} (فصلت:30)، وقوله أيضاً: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (الأحقاف:13).

ويكفي كذلك في بيان عظم أهميتها، قوله صلى الله عليه وسلم، لما سأله الصحابي أبو عَمْرَةَ الثقفي عن أمر يعتصم به، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: (قل: ربي الله، ثم استقم) رواه الترمذي.

وعلى الجملة، فإن قوله سبحانه: {فاستقم كما أمرت} بمثابة دستور للمسلم، يلتزم به في شؤون حياته كافة، فينطلق في حركته من خلاله، ويعيش على ضوء مشكاته، ويموت في سبيله.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة