الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

قصة حواري عيسى عليه السلام 2-5

قصة حواري عيسى عليه السلام 2-5

قصة حواري عيسى عليه السلام 2-5

أرسل الله سبحانه رسوله عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل داعياً إلى الحق المبين، وهادياً إلى صراط مستقيم، غير أنه لم يجد منهم آذاناً صاغية، ولا قلوباً واعية، ولما علم أن أكثرهم عن الحق معرضون، وعن الصراط صادون، خاطبهم بقوله: {من أنصاري إلى الله} (آل عمران:52). ويحكي القرآن الكريم أن فئة قليلة كانت قد آمنت بما جاء به عيسى عليه السلام من الحق، فلم تتردد في قبول ما جاء به، ولم تتقاعس عن تلبية نداء دعوته، بل إجابته بقولها: {نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون} (آل عمران:52)، وفي آية أخرى: {قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} (المائدة:111).

وقد سمى سبحانه أنصار عيسى بالحواريين؛ لأنهم أخلصوا لله تعالى نياتهم، وطهروا سرائرهم من النفاق والغش، فصاروا في نقائهم وصفائهم كالشيء الأبيض الخالص البياض، النقي من الشوائب. فهم لقوة إيمانهم وصفاء نفوسهم، قد لبوا نداء الحق، وتركوا الباطل ورائهم ظهريًّا، ولم يخشوا في ذلك لومة لائم، دافعهم إلى ذلك نصرة دين الله، والدفاع عن الحق الذي جاءهم به عيسى عليه السلام. يشهد لذلك قولهم: {آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون}، فهم أقروا بالإيمان بالله وحده، وعلموا علم اليقين أن ما جاءهم به عيسى هو الحق المبين، وطلبوا منه أن يشهد لهم بهذا الموقف الإيماني عند الله يوم يقوم الناس لرب العالمين.

وقولهم الآنف الذكر يدل على أنهم كانوا على درجة عالية من قوة الإيمان، وصدق اليقين، ونقاء السريرة، والخضوع لدعوة الحق. وفوق ذلك، فقد أخبر القرآن عنهم أنهم أعلنوا اعترافهم بربوبيته الكاملة سبحانه، وسلموا تسليماً تاماً بما أنزله الله على أنبيائه من قبل، وأكدوا امتثالهم للحق الذي جاءهم به عيسى عليه السلام، ثم التمسوا منه سبحانه أن يجعلهم من عباده الأخيار، وهو ما أخبر عنه سبحانه بقوله: {ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} (آل عمران:53).

ثم أخبر القرآن الكريم ما كان من بني إسرائيل، فقال سبحانه: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} (آل عمران:54). وقد كان اليهود الذين علم منهم عيسى عليه السلام الكفر، قد دبروا له حيلة لقتله، واتخذوا الإجراءات اللازمة لتنفيذ هذه الجريمة النكراء، بيد أن الله سبحانه أحبط مكرهم، وأبطل تدبيرهم، بأن نجى نبيه عليه السلام.

ويحكي القرآن الكريم في شأن الحوارين أنهم طلبوا من عيسى عليه السلام أن يُنْزِل عليهم مائدة من السماء، ودار بينهم وبين عيسى عليه السلام الحوار التالي: {إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء} (المائدة:112)، روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان القوم أعلم بالله عز وجل من أن يقولوا: {هل يستطيع ربك}، قالت: ولكن (هل تستطيع ربَّك). وروي عنها أيضاً أنها قالت: كان الحواريون لا يشكون أن الله يقدر على إنزال مائدة، ولكن قالوا: (هل تستطيع ربَّك). وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تستطيع ربَّك)، قال معاذ: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مراراً يقرأ بالتاء: (هل تستطيع ربَّك).

وقد كان جواب عيسى على طلب الحواريين بأن أمرهم بتقوى الله سبحانه، والوقوف عند حدوده، والخوف والخشية منه، وترك مطالبته بأمور تؤدي بالمؤمن إلى الفتنة، فقال لهم: {اتقوا الله إن كنتم مؤمنين}.

ثم حكى القرآن الكريم ما ردَّ به الحواريون على عيسى عليه السلام، وذلك قولهم: {قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين} (المائدة:113)، فقد بينوا في جوابهم أنه طلبوا نزول المائدة رغبة في أن ينالوا البركة، ولحاجتهم إلى الطعام بعد أن ضيق عليهم بنو إسرائيل في الرزق، وأيضاً لتزداد قلوبهم إيماناً بالله وتصديقاً بما جاءهم من الحق، وأيضاً ليكونوا شهوداً على صدق المعجزات التي جاءهم بها عيسى عليه السلام عند الذين لم يشهدوها.

والحواريون بينوا لعيسى عليه السلام -كما حكى القرآن الكريم- أنهم لم يطلبوا نزول المائدة من السماء؛ لأنهم يشكون في قدرة الله، أو نبوة عيسى عليه السلام، بل طلبوا ذلك زيادة في الإيمان، وطلباً لليقين. قال أهل العلم: "كان الحواريون خلصان الأنبياء، ودخلاؤهم وأنصارهم...وقد كانوا عالمين باستطاعة الله لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر، فأرادوا علم معاينة كذلك، كما قال إبراهيم عليه السلام: {ولكن ليطمئن قلبي} (البقرة:260)، وقد كان إبراهيم علم ذلك علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب، ولا شبهة؛ لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون: {وتطمئن قلوبنا}، كما قال إبراهيم: {ولكن ليطمئن قلبي}.

ثم أخبرنا القرآن الكريم بما تضرع به عيسى عليه السلام بعد أن سمع من الحواريين ما قالوه في سبب طلبهم لنزول المائدة من السماء، كما بين ذلك سبحانه بقوله: {قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين} (المائدة:114)، فقد طلب عيسى عليه السلام من ربه سبحانه أن ينزل على أنصاره رزقاً من السماء، يكون يوم نزوله عيداً يحتفلون به، ويبتهجون، ويتقربون به إلى الله عز وجل على ما رزقهم من الطيبات، ويكون أيضاً عيداً لمن يأتي من بعدهم، ممن لم يشهد هذه الآية المعجزة الربانية. قال السدي: أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً، نعظمه نحن ومن بعدنا. وقال سفيان الثوري: يعني يوماً نصلي فيه. وقال قتادة: أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه: عظة لنا ولمن بعدنا.

ثم ختم سبحانه حديثه عن هذه المائدة وما جرى بشأنها بين عيسى عليه السلام والحواريين بقوله: {قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين}، فأخبرهم سبحانه أنه منزل هذه المائدة عليهم؛ إجابة لدعاء رسوله عيسى عليه السلام، وأخبرهم أن من يكفر بعد نزولها، فإنه سوف يعذبه عذاباً شديداً.
وفي ختام سورة الصف مدح سبحانه الحواريين، ودعا المؤمنين إلى التشبه والاقتداء بهم، فقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} (الصف:14)، فالآية هنا تأكيد لما جاء في آية آل عمران من دعوة عيسى المؤمنين من بني إسرائيل إلى نصرته، والالتزام بما جاء به، بقوله على سبيل الامتحان؛ لقوة إيمانهم: مَنْ الجند المخلصون، الذين أعتمد عليهم بعد الله سبحانه في نصرة دينه، وفي التوجه إليه بالعبادة والطاعة وتبليغ رسالته؟ فأجابوه بقولهم: نحن أنصار دين الله تعالى، ونحن الذين على استعداد أن نبذل نفوسنا وأموالنا في سبيل تبليغ دعوته عز وجل، ومن أجل إعلاء كلمته سبحانه.

وكان جواب الحواريين لعيسى عليه السلام عندما دعاهم إلى اتباع الحق -كما تقدم-: نحن أنصار دين الله، ونحن الذين سنثبت على العهد، أما بقية بني إسرائيل، فقد افترقوا إلى فرقتين: فرقة آمنت بما جاء به عيسى عليه السلام من عند الله تعالى، وفرقة أخرى كفرت به وبرسالته، وقد أيد سبحانه الفئة المؤمنة من بني إسرائيل، ونصرها على الفئة الكافرة منهم.

وقد تحدث القرآن الكريم في سورة الحديد عن ثلاث طوائف من أتباع عيسى عليه السلام؛ طائفة ابتدعت في دين الله ما ليس منه، وطائفة أخرى استمرت على الإيمان الحق، الخالي من البدع والأهواء، وطائفة ثالثة انحرفت عن الحق الذي جاء به عيسى عليه السلام انحرافاً شديداً، وقد أخبر سبحانه عن هذه الطوائف الثلاث بقوله: {وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون} (الحديد:27)، فالطائفة الأولى جعل سبحانه في قلوبها {رأفة ورحمة} غير أنها ابتدعت عبادة اختارتها لنفسها {ورهبانية ابتدعوها}؛ زهداً في متاع الدنيا، وتقرباً إلى الله تعالى، والله سبحانه لم يأمرها بها، بيد أنها مع مرور الأيام لم تحافظ على ما اختارته من عبادة، وما ابتدعته من بدعة، بل صار أمرها إلى طقوس خالية من العبادة الصحيحة، لم يصبر على تكاليفها ومشاقها إلا القليل منهم. والطائفة الثانية استمرت على اتباعها لعيسى عليه السلام وعلى الإيمان به إيماناً صحيحاً خالياً مما يفسده، ويعكر صفوه، فأعطاها سبحانه أجورها طيبة كاملة، {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم}. وأما الطائفة الثالثة فقد بدلت نعمة الله كفراً، وقالت: {إن الله ثالث ثلاثة} (المائدة:73)، وقالت: {إن الله هو المسيح ابن مريم} (المائدة:17)، وقالت: {المسيح ابن الله} (التوبة:30)، فسوف تلقى من العقاب والعذاب ما تستحقه.

وقد قال سبحانه في ختام الآية: {وكثير منهم فاسقون} ليدل على أن الذين خرجوا عن الدين الحق الذي جاء به عيسى عليه السلام، وفسقوا عن أمر ربهم أكثر من الذين آمنوا به واتبعوا النور الذي أنزل معه.

وفي سورة الزخرف ورد قوله تعالى بخصوص دعوة عيسى عليه السلام قومه: {ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون * إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم * فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم} (الزخرف:63-65). فقد أرسل سبحانه عيسى عليه السلام إلى قومه، فخاطبهم ناصحاً ومرشداً: يا قوم! لقد جئتكم بالمعجزات البينات الواضحات، التي تشهد بصدق ما جئتكم به من الإنجيل، المشتمل على ما تقتضيه الحكمة الإلهية من آداب وتشريعات ومواعظ. ثم طلب منهم أن يسمعوا لما جاءهم به، ويطيعوا ما أمرهم به؛ لأن في ذلك نجاة لهم. بيد أن قوم عيسى عليه السلام اختلفوا في أمره اختلافاً شديداً.

و{الأحزاب} الذين اختلفوا في أمر عيسى هم اليهود والنصارى؛ لأنهم أمة دعوته، وقيل: المراد النصارى، وهم أمة إجابته، وقد اختلفوا في أمره شيعاً وأحزاباً، فمنهم الملكانية، ومنهم النسطورية، ومنهم اليعقوبية. وقالوا في أمره أقوالاً باطلة. وقد توعد سبحانه الذين اختلفوا في أمره بالعذاب الأليم؛ بسبب اختلافهم وبغيهم، ونسبتهم إلى عيسى عليه السلام ما هو بريء منه.

هذا حاصل ما ورد بشأن قصة حواريِّ عيسى عليه السلام في القرآن وأتباعه وأهل دعوته. والحديث عن عيسى عليه السلام له بقية.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة