الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حَجَّة الوداع

حَجَّة الوداع

حَجَّة الوداع

فُتِحت مكة، وأتم النبي صلى الله عليه وسلم إبلاغ الرسالة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وفرض الله الحج على الناس في أواخر السنة التاسعة من الهجرة، فالحج أحد أركان الإسلام الخمسة، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران:97) وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصوم رمضان) رواه البخاري.

وقد تعلَّم الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتهم وصيامهم وأمور حياتهم، وما يتعلق بهم من عبادات وواجبات، وبقي أن يعلمهم مناسكهم وكيفية الأداء لشعيرة الحج.

فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج وأعلن ذلك، فتسامع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الحج هذا العام، فقدم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يأتم به.

وعُرِفت هذه الحجة في كتب السنة والسيرة بحجة الإسلام، وحجة البلاغ، وحجة الوداع لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها، حتى قال لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن في السنة العاشرة ـالتي حج فيهاـ: (يا معاذ! إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا) رواه أحمد . وعن جابر رضي الله عنه، قال: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة وعليه السكينة وأمرنا بالسكينة، ثم قال: خذوا مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) رواه النسائي، وفي رواية لمسلم: (لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحُجُّ بعد حجتي هذه).

قال النووي: "فيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته صلى الله عليه وسلم، وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه، وانتهاز الفرصة من ملازمته وتعلم أمور الدين، وبهذا سُميت حجة الوداع".

وأجمع الأحاديث الصحيحة في بيان حجة النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبى بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع، قال: اغتسلي واستثفري (شدي عليكِ) بثوب وأحرمي. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك لبيك، لا شريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وأهلَّ الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته.

قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوى إلا الحج ـلسنا نعرف العمرةـ حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} (البقرة:125) فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبى يقول، ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يقرأ في الركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص:1) و{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (الكافرون:1)، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (البقرة:158) أبدأ بما بدأ الله به
).

فبدأ بالصفا فرقى عليه، حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدنا مشى، حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة، فقال: لو أنى استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة. فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا، أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: دخلت العمرة في الحج -مرتين- بل لأبد أبد.

وقدِم علىّ من اليمن بِبُدْن النبيَ صلى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حلّ ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبى أمرني بهذا، قال: فكان علي رضي الله عنه يقول بالعراق، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحَّرِشا على فاطمة للذي صنعت، مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته: أنى أنكرت ذلك عليها، فقال: صدقت، صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك، قال: فإن معي الهدى فلا تحل، قال: فكان جماعة الهدى الذي قدم به علىّ من اليمن، والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مئة. قال: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدى. فلما كان يوم التروية توجهوا إلى مِنى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنَمِرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية.

فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس، وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد، فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مُبَرِّح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عنى فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد ـثلاث مراتـ.

ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصلِّ بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رَحْلِه، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس! السكينة، السكينة، كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح (يصلى صلاة تطوع) بينهما شيئاً. ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر ـحين تبين له الصبح- بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر(أضاء) جدًّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس.

وأردف الفضل بن عباس ـوكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماًـ فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرت به ظُعُن (نساء) يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر. حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يُكَّبر مع كل حصاة منها ـمثل حصى الخذْف- رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بيده، ثم أعطى عليًّا فنحر ما غَبَر(ما بقي) وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قِدْر فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: انزعوا (استقوا) بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلوا فشرب منه.

وهكذا أدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج قبيل وفاته ليلحق بالرفيق الأعلى، فأرى المسلمين مناسكهم، وأعلمهم ما فرض الله عليهم في حجهم، من الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، ورمي الجمار، وما أحِلَّ لهم في حجهم، وما حرم عليهم، وأعلمهم بحقوق المسلم، وأنه محرم الدم والمال والعِرض، وأكد على حرمة الظلم والربا وكل عادات الجاهلية، وكذلك أوصى صلى الله عليه وسلم بالنساء، والقيام بحقوقهن، وأكد على حق الزوج على زوجته.

ثم كانت وصيته صلى الله عليه وسلم لأمته التمسك بكتاب ربها والاعتصام به، فهو سبيل العزة والهداية. فكم حاجة المسلمين ـبل البشريةـ اليوم ماسة، إلى الاهتداء بهدي ووصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله الله رحمة للعالمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة