الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وقفات مع قصة يوسف في القرآن

وقفات مع قصة يوسف في القرآن

وقفات مع قصة يوسف في القرآن

المتتبع لقصة يوسف كما ذكرها القرآن الكريم يستدعي منه الوقوف معها عدة وقفات، وهي:

الوقفة الأولى: جاءت قصة يوسف في معرض واحد في القرآن الكريم، وهذه الظاهرة لم تُعْهد في قصة نبي من الأنبياء، حيث يتكرر ذكرها في أكثر من سورة، أو في مواضع متباعدة من السورة، حتى لتجيء بعض القصص في أكثر من مائة موضع في القرآن الكريم، فما الحكمة في عدم تكرار قصة يوسف عليه السلام؟

أجاب العلماء عن هذا السؤال بأكثر من جواب، وأقوى ما أُجيب به: أن قصص الأنبياء عليهم السلام إنما تكررت؛ لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم وآذوهم؛ والمواقف التي يعيشها النبي تستدعي ذلك التكرير؛ ذلك لتكرير تكذيب الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلما كذبوا أُنزلت قصة منذرة بحلول العذاب، كما حلَّ على المكذبين؛ ولهذا قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين} (الأنفال:38)، وقال أيضاً: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين} (الأنعام:6)، وقصة يوسف لم يقصد منها ذلك.

الوقفة الثانية: ذكر سبحانه في فاتحة سورة يوسف قوله: {نحن نقص عليك أحسن القصص} (يوسف:3)، ذهب بعض المفسرين إلى أن (التفضيل) هنا على غير حقيقته، بمعنى أنه ليس هناك مفاضلة بين القصص القرآني وغيره من القصص، والصواب أن التفضيل في الآية على حقيقته، وأن هذا التفضيل ليس واقعاً بين القصص القرآني؛ إذ القصص القرآني كله على مستوى واحد من الكمال المطلق، الذي ليس بعده كمال ولا جمال، وإنما المفاضلة هنا بين القصص القرآني وغيره من القصص البشري. قال ابن عاشور: "وقصص القرآن أحسن من قصص غيره من جهة حسن نظمه، وإعجاز أسلوبه، وبما يتضمنه من العبر والحكم، فكل قصص في القرآن هو أحسن القصص في بابه، وكل قصة في القرآن هي أحسن من كل ما يقصه القاص في غير القرآن. وليس المراد أحسن قصص القرآن، حتى تكون قصة يوسف عليه السلام أحسن من بقية قصص القرآن".

الوقفة الثالثة: قوله تعالى: {ولقد همت به وهم بها} (يوسف:24)، اختلف المفسرون في معنى (الهمِّ) الذي همَّ به يوسف: أهو همُّ عزيمة؟ أم همُّ رغبة؟ وهل هو همُّ فعل؟ أم همُّ ترك؟ وصريح لفظ القرآن أنه همَّ بها، وأنها همَّت به، بمعنى أن كلاً منهما همَّ بصاحبه، وأقبل عليه، فلا معنى إذن للتفرقة بين لفظين متساويين لفظاً ومعنى، وهما في مقام واحد.

كذلك اختلف المفسرون في تأويل قوله سبحانه: {لولا أن رأى برهان ربه} (يوسف:24)، اختلفوا في هذا (البرهان)، أهو مَلَك جاءه من الله يحذره مما يُدعى إليه؟ أم هو شيء وجده في نفسه، فغلب به نفسه، فكان ذلك (برهاناً) من الله له، يرى به طريقه المستقيم؟ أم كان هذا (البرهان) صورة أبيه يعقوب، وقد تمثل عاضاً على أصبعه، محذراً من إياه من هذا الخطر الذي يتهدده؟ إلى غير ذلك من التأويلات لهذا (البرهان).

والذي حمل المفسرين على هذه التأويلات أمران:

أولهما: أنهم ألزموا لفظ {ربه} في الآية معناه المطلق، وهو الدال على ربوبية الله سبحانه، ولو أنهم نظروا إلى المعنى الآخر لكلمة (رب)، وأنها تجيء بمعنى (السيد) لخرجوا من ذلك الحرج الذي وقعوا فيه، وهم يحاولون أن يجدوا تأويلاً لقوله تعالى: {لولا أن رأى برهان ربه}، فإن (لولا) حرف يفيد امتناع شيء لوجود شيء، أي: إنه لولا وجود برهان ربه لأمضى عزيمة الهمِّ بها، وهم يدفعون أن يكون يوسف قد همَّ فعلاً.

ثانيهما: أنهم يرون في النبي أنه ينسلخ عن طبيعة البشر، فلا تتحرك له شهوة، ولا تندفع في كيانه رغبة..مع أن النبي بشر قبل أن يكون نبياً، وحين يلبس ثوب النبوة، لا يخلع ثوب البشرية، ويبقى من بشرية النبي كل مقوماتها، وما فيها من عواطف، ونوازع، وشهوات، وبهذا تتجلى عظمة النبي حين تتسع نفسه العظيمة لثوب النبوة، والاحتفاظ بها في طهرها، وبهائها، مع مغالبته لأهواء النفس البشرية وشهواتها.

وعلى هذا، فالذي يقتضيه المقام والسياق أن همَّ يوسف كان همَّ فِعْلٍ، لا همَّ تَرْكٍ، وأن {برهان ربه} هو برهان سيده العزيز، وأن هذا البرهان هو إشارة معروفة، كان يشار بها عند مجيء العزيز إلى بيته؛ حيث يكون ذلك إعلاناً لخدمه، وحرسه؛ ليكونوا جميعاً على أُهبة الاستعداد لاستقباله، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وألفيا سيدها لدى الباب} (يوسف:25)، أي: أنه ما كادت امرأة العزيز تداني يوسف، وما كاد يوسف يدانيها حتى رأى حركات القصر تنبئ عن مَقْدَم العزيز، وأنه ما كاد يفلت من بين يديها، ويتجه نحو الباب، حتى كان العزيز بالباب! وإذن، فيكون قوله سبحانه: {إنه ربي أحسن مثواي} (يوسف:23) مقصوداً به العزيز؛ فإنه لا يخون سيده الذي أكرمه بالعدوان على زوجه.

وقد ذكر البيضاوي كلاماً يؤكد ما تقدم، حيث قال: "قصدتْ مخالطته، وقصد مخالطتها، والهم بالشيء قصده والعزم عليه، ومنه الهُمَام: وهو الذي إذا هم بالشيء أمضاه. والمراد بهمه عليه الصلاة والسلام ميل الطبع ومنازعة الشهوة، لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل، عند قيام هذا الهمِّ، أو مشارفة الهمِّ".

هذا، وقد ذهب ابن عاشور مذهباً آخر هنا، معتبراً أن المراد بـ (الرب) في الآية هو (الربُّ) الذي بمعنى الربوبية، وجعل الآية من باب التقديم والتأخير: وأن التقدير: لولا أن رأى برهان ربه، لهمَّ بها، فقدم الجواب على شرطه؛ للاهتمام به. ولم يقرن الجواب باللام التي يكثر اقتران جواب (لولا) بها؛ لأنه ليس لازماً؛ ولأنه لما قدم على {لولا } كره قرنه باللام قبل ذكر حرف الشرط. وبالتالي فإن يوسف عليه السلام لم يخالطه همٌّ بامرأة العزيز؛ لأن الله عصمه من الهم بالمعصية بما أراه من البرهان.

الوقفة الرابعة: قوله عز وجل: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين * وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء} (يوسف:52-53). ذهب أكثر المفسرين - وهو الذي يدل عليه السياق - إلى أن هذا من كلام امرأة العزيز، وأنه معطوف على قولها قبلُ: {أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} (يوسف:51)، وذهب البعض إلى أنه من كلام يوسف عليه السلام، تعقيباً على قوله للرسول الذي جاءه يدعوه للقاء الملك، فكان جوابه: {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم} (يوسف:50)، فيوسف لم يُرِد بهذا أن يفضح الحرائر، ولكنه أراد أن يبرئ نفسه، وأنه لا سبيل إلى تبرئة نفسه إلا بالكشف عن هذا الأمر، ولا سبيل للكشف عنه إلا بسؤال هؤلاء النسوة، فهو يقول لنفسه معتذراً من هذا الطلب الذي طلبه، معللاً له: {ذلك ليعلم} أي: فعلت هذا الذي طلبته من الملك؛ ليعلم العزيز أني لم أخنه في أهله، منتهزاً غيبته، واشتغاله بالحكم؛ وليعلم العزيز أيضاً {أن الله لا يهدي كيد الخائنين} أي: لا يجعل الله للخيانة وأهلها سلطاناً في الحياة.

ثم يعود إلى نفسه، فيذكر أنه همَّ بامرأة العزيز، بعد أن همت به، وبعد أن عرضت مفاتنها ومغرياتها عليه، في أكثر من موضع، وفي أكثر من موقف، يذكر يوسف هذا، فيعترف على نفسه بهذا الهم الذي كان منه، فيقول: {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء} إنها نفس بشرية، من شأنها أن تميل مع الهوى، وأن تغرى بالسوء {إلا ما رحم ربي} أي: إلا ما كان من رحمة الله، ودَفْعِه هذا السوء عن عباده المخلصين.

الوقفة الخامسة: قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: {وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم} (يوسف:84)، قد يسأل سائل هنا: كيف يكون الجزع والحزن من أنبياء الله؟ وأين الصبر الجميل الذي وطَّن يعقوب عليه السلام نفسه عليه عند استقبال هذا المصاب؟

وفي الجواب يقال: إن هذا الحزن الكظيم -أي: الدفين الذي لا يُباح به- ليس بالذي يعارض الصبر الجميل، أو ينتقص من مشاعر التسليم لله، والرضا بقضائه، وخاصة ما يتصل بعاطفة الأبوة؛ إذ ليس من الصبر الجميل في شيء أن تجف عاطفة الأبوة، وتتجمد مشاعر الحزن على فقد الابن. ثم إن هذا الكظم للحزن، وحبسه في القلب هو في ذاته وجه من وجوه الصبر الجميل؛ حيث لم يتشكل هذا الحزن في صورة لطمٍ للخدود، أو شقٍ للجيوب، أو نياحٍ على الأحبة. أما شكاته، وبثُّ حزنه، أي: إذاعته والتصريح به في صورة من الشكوى إلى الله، فهو عبادة خاصة، وولاء مطلق لله، وطمع في رحمته، ولجوء إلى فضله وإحسانه.

فيعقوب عليه السلام يشكو إلى الله، وهو يعلم من الله ما لا يعلم أبناؤه، ومن علمه أن هذه الضراعة إلى الله، والشكاة إليه هي عبادة خالصة. وولاء لله رب العالمين. إنه يشكو إلى سيده، ومالكه، وخالقه، ومَن بيده الأمر كله. وليست هذه الشكوى إعلاماً لله بحاله؛ فالله سبحانه يعلم كل شيء علماً أزليًّا، وإنما هذه الدعوات هي عبادة لله بما يستولي على العبد منها من مشاعر الحاجة، والعَوَز إليه سبحانه.

الوقفة السادسة: كان لقميص يوسف عليه السلام شأن في هذه القصة؛ فقد كان القميص أول الأمر يحمل بصمات يوسف، التي تشهد بكذب إخوته، تلك البصمات التي استدل منها يعقوب على كذب بنيه حين جاءوه ملطخاً بدم كذب، مدعين أن الذئب أكل يوسف، في حين أن القميص كان سليماً. وأيضاً فإن عزيز مصر قرأ على قميص يوسف البصمات التي تدل براءته، حين رآه قد قُدَّ من دبر، لا من قُبُل. وكذلك، كان هذا القميص الذي بعث به يوسف إلى أبيه شفاء لبصره. أما كيف كان لهذا القميص أن يعيد إلى يعقوب بصره بمجرد أن أُلقى عليه، فللمفسرين أقوال عديدة في هذا..

فمن قائل : إنه آية من آيات الله، أجراها الله سبحانه بين يدي نبيين كريمين: يعقوب، ويوسف عليهما السلام.

ومن قائل : إن ذلك لم يكن أمراً معجزاً، وإنه جاء على سنن الطبيعة، ومألوف الحياة، وأن الذي ذهب ببصر يعقوب هو شدة الحزن، وأن الذي يعيد إليه بصره الذاهب، هو شدة الفرح، وهذا مما يعلمه يوسف بما علمه الله تعالى من تأويل الأحاديث.

الوقفة السابعة: قال سبحانه في أول سورة يوسف: {نحن نقص عليك أحسن القصص} (يوسف:3)، وقال في آخرها: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} (يوسف:111)، فدل على أن هذه القصة من أحسن القصص، وأن فيها عبرة لمن اعتبرها. ونحن نذكر تالياً بعضاً من العبر والدروس التي تضمنتها هذه القصة:

- أنه لا دافع لقضاء الله تعالى، ولا مانع من قدر الله تعالى، وأنه تعالى إذا قضى للإنسان بخير ومكرمة، فلو أن أهل الأرض اجتمعوا عليه، لم يقدروا على دفعه ورفعه.

- أن الحسد سبب للخذلان والنقصان، وأنه رذيلة إذا سيطرت على النفوس، أفقدتها رشدها وصوابها وتقديرها الصحيح للأمور.

- أن الصبر مفتاح الفرج، كما في حق يعقوب عليه السلام، فإنه لما صبر فاز بمقصوده، وكذلك في حق يوسف عليه السلام.

- تكشف قصة يوسف عليه السلام عن ضعف الإنسان، وعن قوته معاً؛ فالإنسان ضعيف إذا استسلم لهواه، وأعطى زمامه لنفسه الأمَّارة بالسوء. وهو قوي إذا رجع إلى سلطان عقله، واستمع إلى وحي ضميره، وعرف قدر إنسانيته، واستشعر أنه خليفة الله في أرضه، وأنه إنما خُلِق ليسود ويحكم، وأنه لن يسود ويحكم إذا كان عبداً لأهوائه وشهواته ونزواته، وأنه يسود ويحكم إذا أحكم السيطرة على شهواته، واستعلى على دواعي نزواته.

- تحريم الخلوة بالنساء غير المحارم؛ لما تفضي إليه من تحريك الشهوات، والوقوع فيما حرم الله؛ إذ ميل الرجل إلى المرأة، وميل المرأة إلى الرجل أمر فطري، وكثيراً ما يؤدي الاختلاط إلى الوقوع في الفاحشة.

- أن همَّ الإنسان بالفعل، ثم رجوعه عنه قبل الدخول في مرحلة التصميم والتنفيذ لا مؤاخذة فيه، قال القرطبي: "الهمُّ الذي همَّ به -يوسف- ما يخطر في النفس ولا يثبت في الصدر؛ وهو الذي رفع الله فيه المؤاخذة عن الخلق، إذ لا قدرة للمكلف على دفعه".

- أن من الواجب على المؤمن إذا ما دُعي إلى معصية أن يستعيذ بالله من ذلك، وأن يُذكِّر الداعي بضررها، وبسوء عاقبة المرتكب لها.

- أن يوسف عليه السلام خرج من هذه المحنة مشهوداً له بالبراءة، قال الرازي: "واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة: يوسف عليه السلام، والمرأة وزوجها، والنسوة، والشهود، ورب العالمين شهدوا ببراءته عن الذنب...وإذا كان الأمر كذلك، فحينئذ لم يبق للمسلم توقف في هذا الباب".

- أن الإنسان إذ وجد في نفسه الكفاءة لأداء عمل معين، يستطيع عن طريقه أن يخدم دعوته وأمته، فإنه لا بأس من أن يطلب ذلك العمل.

- اقتضت سنة الله في خلقه، أنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فسبحانه يأتي بالرخاء بعد الشدة، وباليسر بعد العسر، وبالفرج بعد الكرب.

- أن الآباء العقلاء لا يمنعهم خطأ أبنائهم من محبتهم ورعايتهم والحرص على سلامتهم.

- أن النفوس النقية التي أضاء الله بصيرتها، ورزقها الإيمان القوي، والعزم المتين، لا تفقد الأمل في رحمة الله مهما اشتدت عليها المصائب، ومهما نزل بها من المحن.

- من يتدبر قصة يوسف عليه السلام يزداد إيماناً واعتقاداً بأن هذا القرآن من عند الله سبحانه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن معاصراً ليوسف عليه السلام.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة