الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

طبيعة الفتوحات الإسلامية

طبيعة الفتوحات الإسلامية

طبيعة الفتوحات الإسلامية

الغرب يحسب أن منظومة الجهاد والفتوح الإسلامية في الإسلام كانت حركة بالسيف، أو هجرة جنس، أو دفعة أطماع.. وكذلك يظن بعض المسلمين وللأسف الشديد.

أهداف الفتوح والجهاد في الإسلام إنما يحكمها في الحقيقة آيات ثلاث:
قوله تعالى: {لا إكراه في الدين} ، وقوله سبحانه: {يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}، وقوله عز وجل: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا}.. ويبين معنى سبيل الله قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: [من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله].

وعليه:
فلا يمكن أن تقوم حرب في الإسلام لأجل إكراه أحد على الدخول فيه.. كما كان الحال في الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في إسبانيا ضد المسلمين خاصة.

ولا يمكن أن تقوم حرب في الإسلام بقصد سيادة عنصر أو تغليب جنس؛ وهو ما كان سمة للحرب العالمية، والتي أذكى نارها هتلر ليسود العنصر والجنس الآري الألماني.

ولا يمكن أيضا أن تقوم حرب في الإسلام بقصد جلب المغانم، والخامات والموارد؛ كما كان هدف الاستعمار الغربي لدول إفريقيا وآسيا.

كما لا يتصور أن تقوم حرب من أجل مجد شخصي لملك أو قائد، وإنما الحرب في الإسلام مقصدها وغايتها أن تكون كلمة الله هي العليا.. وهو أسلوب قصر وحصر فليس في الإسلام حرب يخرج مقصدها عن هذا. {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكن الدين كله لله}(الأنفال:39).

الحرب في حالتين:
والذي يتتبع حركة الفتوح الإسلامية يوقن أنه إنما كانت الفتوح والغزوات والسرايا والحروب لفتح باب الدعوة لبلوغ رسالة الإسلام للناس كافة، ووصول الحق إليهم.. ثم بعد ذلك لهم حرية الاختيار.. فالحرب تقرر في حالتين:
الأولى: الوقوف بالقوة المادية في وجه الدعوة السلمية.
والثانية: الاعتداء على حرية العقيدة وفتنة الناس عن دينهم.
فإذا وقف أحد في وجه الدعوة، أو قهر المسلمين عن دينهم سلت في وجهه سيوف الجهاد، ومن هنا يفهم قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}(آل عمران:19)

فإذا علمنا أن الإسلام عقيدة وجدانية تنبثق منها شريعة قانونية، يقوم عليها نظام اجتماعي متميز عن سائر النظم الأرضية التي عرفتها البشرية.. ومن أهم المميزات الاجتماعية لهذه الشريعة الربانية:
أنها نظام مبرأ من العصبية والعنصرية والتعصب الديني، فمن انضم إليه في أي وقت كان له مثل ما لبقية المسلمين وعليه ما عليهم.

ويميز هذا الدين وشريعته ونظامه الاجتماعي أيضا عدالة مطلقة: فجميع الناس أمامه حقوقهم متساوية، ليس لفرد أو أسرة أو طبقة حق زائد، والعدل هو القانون السائد، وليس للعداوة وزن في أحكامه ولا مقام لتقريب الصداقات أو القرابات {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى}(الأنعام:152)، {ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}(المائدة:8)

كما يميزها ثالثا رفع الظلم ودفعه: فحيثما كان ظلم فالمسلمون منتدبون لدفعه ورفعه، دون نظر لمن وقع منه الظلم والبغي والعدوان أو إلى من وقع عليه ذلك. وقوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(الحجرات:9) دليل على كمال عدل الإسلام، وكذلك قوله عز من قائل: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}(النساء:75)

وفي قصة جبلة بن الأيهم ملك غسان ولطمه للأعرابي في عهد عمر وأمر عمر بالاقتصاص من جبلة ما يدل على أن عدل الإسلام لم ينظر يوما إلى قدر الظالم ومكانته فيعفيه من العقوبة، ولا إلى ضعف المظلوم وجهالته أو قلة حيلته فلا يأخذ الحق له، وأعلى من ذلك كله ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: [والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها]..

من هذه المنطلقات انطلقت حركة الجهاد، وعلى أساسها كانت حقيقة أسبابه: حرية الدعوة، حرية العقيدة، تحقيق العدل في الأرض.

النصارى يمتدحون فتوح الإسلام:
ولقد امتدح النصارى الفتح الإسلامي وأثنوا على الفاتحين..
جاء في كتاب "الدعوة إلى الإسلام" تأليف "ت. و. أرنولد" ما نصه:
(وقد استطاع ميشيل الأكبر بطريق إنطاكية اليعقوبي أن يحبذ فيما كتبه في النصف الثاني من القرن الثاني عشر ـ ما كتبه إخوانه في الدين، وان يرى أصبع الله في الفتوح العربية حتى بعد أن خبرت الكنائس الشرقية الحكم الإسلامي خمسة قرون.. وقد كتب يقول بعد أن سرد اضطهادات هرقل: "وهذا هو السبب في أن إله الانتقام ـ الذي تفرد بالقوة والجبروت، والذي يديل دولة البشر كما يشاء فيؤتيها من يشاء، ويرفع الوضيع ـ لما رأى شرور الروم الذين لجأوا إلى القوة فنهبوا كنائسنا، وسلبوا ديارنا في كافة ممتلكاتهم، وأنزلوا بنا العقاب في غير رحمة ولا شفقة، أرسل أبناء إسماعيل من بلاد الجنوب لتخليصنا على أيديهم من قبضة الروم).
ثم قال: (لم يكن كسبا هينا أن نتخلص من قسوة الروم وأذاهم، وحنقهم العنيف ضدنا، وأن نجد أنفسنا في أمن وسلام).

ولما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن ، وعسكر أبو عبيدة في فحل، كتب الأهالي المسيحيون في هذه البلاد إلى العرب يقولون: "يا معشر المسلمين!! أنتم أحب إلينا من الروم، وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا، وأرأف بنا، وأكف عن ظلمنا، وأحسن ولاية علينا، ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا"

لقد كان الفتح الإسلامي فتحا فريدا في تاريخ البشرية كلها، لم تعرف له من قبل ولا من بعد مثيلا ولا نظيرا.. إنه لم يكن فتحا للأرض وكنوزها وإنما كان فتحا لقلوب ساكني الأرض، وغرسا لبذرة العدل والتسامح والمساواة والإخاء في ربوعها.

إن أي إنسان مخلص للإنسانية يعرف طبيعة الفتح الإسلامي ويدرك أهدافه وبواعثه ليتمنى أن لو كان مد الإسلام الأول قد غمر الأرض جميعا، وألقى فيها تلك البذرة الطيبة الخيرة. ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يراجع كتاب دراسات إسلامية لسيد قطب.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة