الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لفظ (الدُّبر) في القرآن الكريم

لفظ (الدُّبر) في القرآن الكريم

لفظ (الدُّبر) في القرآن الكريم

لفظ (الدُّبُر) يدل في أصله اللغوي على آخر الشيء وخَلْفه، وهو خلاف القُبُل؛ يقال: دُبُر ودَبُر، والجمع أدبار. ودَبَر النهار وأدبر: إذا جاء آخره. ودَبَرَت الحديث عن فلان: إذا حدثت به عنه؛ لأن الآخر المحدث يُدْبِرُ الأول، بمعنى أنه يجيء خلفه. وقطع الله دابرهم، أي: أذهب آخر من بقي منهم. ودابرت فلاناً: عاديته. والاستدبار: طلب دبر الشيء. وتدابر القوم: إذا ولى بعضهم عن بعض. ورجل مقابل مدابر: إذا كان كريم النسب من قِبَل أبويه؛ ومعنى هذا أن من أقبل منهم فهو كريم، ومن أدبر منهم فهو كذلك. ويقال: هو لا يصلي الصلاة إلا دُبْريًّا: وذلك إذا صلاها في آخر وقتها، يريد وقد أدبر الوقت وذهب. والدابر يقال للمتأخر، وللتابع، إما باعتبار المكان، أو باعتبار الزمان، أو باعتبار المرتبة، وأدبر: أعرض وولى دبره. والدَّبار: الهلاك، مثل الدمار. والتدبر: التفكر، يقال: تدبرت الأمر: إذا نظرت في أدباره، أي في مآلاته وعاقبته.

ولفظ (الدبر) وما اشتق منه ورد في القرآن الكريم في أربعة وأربعين موضعاً؛ جاء في اثني عشر موضعاً بصيغة الفعل، من ذلك قوله عز وجل: {أفلم يدبروا القول} (المؤمنون:68). وجاء بصيغة الاسم في اثنين وثلاثين موضعاً، من ذلك قوله تبارك وتعالى: {ولى مدبرا ولم يعقب} (النمل:10).

ولفظ (الدبر) ورد في القرآن الكريم على المعاني التالية:

أولاً: بمعنى (الظَّهْر)، من ذلك قوله تعالى: {إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار} (الأنفال:15)، يعني: لا تفروا من مواجهة العدو، وتولوهم ظهوركم، بل قابلوهم وجهاً لوجه، واثبتوا عند ملاقاتهم. ونظيره هذا قوله سبحانه: {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار} (الأحزاب:15). وأكثر ما جاء لفظ (الدبر) بحسب هذا المعنى.

ثانياً: بمعنى الرجوع عن الإسلام ونبذه ظهريًّا، على وَفْق هذا المعنى جاء قوله سبحانه: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى} (محمد:25)، قال الطبري: إن الذين رجعوا القهقرى على أعقابهم كفاراً بالله من بعد ما تبين لهم الحق وقصد السبيل، فعرفوا واضح الحجة، ثم آثروا الضلال على الهدى؛ عناداً لأمر الله تعالى من بعد العلم. ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا} (الإسراء:46)، أي: أعرضوا، ولم يلتفوا إلى ما جئت به من القرآن، بل جعلوه وراءهم ظِهْريًّا.

ثالثاً: بمعنى عقب الشيء ونهايته، وهو بحسب هذا المعنى كثير في القرآن الكريم، من ذلك قوله تعالى: {ومن الليل فسبحه وأدبار السجود} (ق:40)، المعنى: سبح بحمد ربك عقب الانتهاء من صلاتك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: {فسبحه وأدبار السجود}، قال: هو التسبيح بعد الصلاة. ونظيره قوله تعالى: {ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم} (الطور:49)، يعني: صلِّ حين تدبر النجوم للأفول عند إقبال النهار. روي عن علي رضي الله عنه، في قوله سبحانه: {وإدبار النجوم}، قال: الركعتان قبل صلاة الصبح.

رابعاً: بمعنى الذهاب والمُضي، وعلى هذا قوله سبحانه: {والليل إذ أدبر} (المدثر:33)، أي: والليل إذ ولى ذاهباً، عن قتادة قال: {والليل إذ أدبر} إذ ولى. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بإدبار الليل هنا: إظلامه.

خامساً: بمعنى الإعراض والتولي عن طاعة الله، من ذلك قوله تعالى: {تدعو من أدبر وتولى} (المعارج:17)، قال الطبري: تدعو النار إلى نفسها من أدبر في الدنيا عن طاعة الله، وتولى عن الإيمان بكتابه ورسله. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح، ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب. ونظير هذا قوله عز وجل: {ثم أدبر واستكبر} (المدثر:23)، أي: ولَّى عن الإيمان والتصديق بما أنزل الله من كتابه، {واستكبر} عن الإقرار بالحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ونظيره أيضاً قوله تبارك وتعالى: {ثم أدبر يسعى} (النازعات:22)، أي: ولَّى معرضاً عما دعاه إليه موسى عليه السلام من طاعته ربه، وخشيته، وتوحيده.

سادساً: الغابر والآخر، جاء بحسب هذا المعنى قوله عز وجل: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا} (الأنعام:45)، المراد: فاستؤصل القوم الذين عتوا عن أمر ربهم، وكذبوا رسله، وخالفوا أمره عن آخرهم، فلم يُترك منهم أحد إلا أُهلك بغتة؛ إذ جاءهم عذاب الله. ونحوه قوله عز وجل: {وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا} (الأعراف:72)، أي: أهلكنا الذين كذبوا من قوم هود بحججنا جميعاً عن آخرهم، فلم نُبقِ منهم أحداً. ومنه أيضاً قوله تبارك وتعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} (الحجر:66)، المراد: أن آخر قوم لوط عليه السلام وأولهم مجذوذ مُسْتَأصَل صباح ليلتهم.

سابعاً: بمعنى التدبر والتفكر، جاء على غرار هذا المعنى ثلاث آيات، الأولى: قوله عز وجل: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء:82)، أي: أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم، يا محمد! كتاب الله، فيعلموا حجة الله عليهم في طاعتك، وإتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنـزيل من عند ربهم؛ فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض. الثانية: قوله سبحانه: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} (محمد:24). المراد: أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي القرآن، الذي أنزله على نبيه عليه الصلاة والسلام، ويتفكرون في حججه التي بينها لهم في تنـزيله فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون. الثالثة: قوله تبارك وتعالى: {أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين} (المؤمنون:68)، يعني: أفلم يتدبر هؤلاء المشركون تنـزيل الله وكلامه، فيعلموا ما فيه من العبروالحجج والبراهين.

ومما يدخل تحت مادة (دبر) قوله عز وجل: {فالمدبرات أمرا} (النازعات:5)، يعنى: الملائكة الموكلة بتدبير أمور الخلق.

والمتأمل في المعاني التي جاء عليها لفظ (الدبر) في القرآن الكريم، يرى أنها ترجع في المحصلة إلى الأصل اللغوي، الذي يدل على آخر الشيء وخلفه، ومن هنا قال ابن فارس عند بيانه لأصل هذه المادة: "أصل هذا الباب أن جُلَّه في قياس واحد، وهو آخر الشيء وخلفه، خلاف قبله، وتشذ عنه كلمات يسيرة".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة