الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المفاضلة بين الحياة في سبيل الله والشهادة

المفاضلة بين الحياة في سبيل الله والشهادة

المفاضلة بين الحياة في سبيل الله والشهادة

ليس أفضل ولا أشرف من أن يحيا المسلم حياته كلها جهاداً خالصاً في سبيل الله مرابطاً على ثغور الإسلام المتنوعة حتى لا يؤتى الإسلام من قِبله، فيعيش هموم وقضايا أمته كلها وينافح من أجلها لينال الفوز العظيم من ربه بأن يجعل موته شهادة خالصة في سبيله ، ولقد صور صاحب الظلال قضية المسلم التي يحيا من أجلها (إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً، ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير.. فما له والنوم، وما له والراحة، وما له والفراش الدافئ والعيش الهادئ والمتاع المريح؟!).

والناظر الحصيف يدور مع مصلحة الإسلام حيث دارت للوصول إلى قيادة العالمين.. الأمر الذي يحتاج إلى من يجدد للناس أمر دينهم، فيجمع الطاقات والقدرات للنهوض بالدنيا مع الدعوة لإعلاء كلمة الدين ليعمر الأرض بمنهج الله حتى تكتمل منظومة خدمة هذا الدين.. غير أن الأمر يحتاج إلى وعي رشيد لتجديد المفاهيم ووضعها في محلها الصحيح اللائق بها، حيث نرى كثيراً من أبناء الأمة قد أتقن فنون الموت في سبيل الله دون أن يتقن ولوج ساحات الحياة في سبيل الله وما أكثرها وما أشقها، والذي خاض في هذا الخضم الشائك المترامي الأطراف مع شياطين الإنس والجن يدرك المصاعب المتكاثرة المعترضة في طريقه كما عبر عباس السيسي رحمه الله: (الحياة في سبيل الله أشق من الموت في سبيل الله ألف مرة)، وهو عين ما أصلَّه الشيخ القرضاوي للمجاهدين الأفغان بعد أن نزغ الشيطان بينهم (لقد أتقنتم – أيها المجاهدون – الموت في سبيل الله، ولم تتقنوا الحياة في سبيل الله ، فشأن الحياة في سبيل الله لا يقل شأناً عن الشهادة في سبيل الله).. وهذا ما أراده الداعية محمد الغزالي رحمه الله وهو يقول في لوعة بعد مصائب مؤلمة: (أريد أن أفهّم أبناء جماعة المسلمين أن الحياة في سبيل الله كالموت في سبيل الله).. وبهذا الفهم الدقيق علّمنا عبد الله بن رواحة قائلاً: (أنا لا أزال حبيساً في سبيل الله حتى أموت) فما أصعب الحياة في سبيل الله، وما أسهل الموت في ذات السبيل!!.. الأول يتطلب جهاد العمر كله، والثاني لا يتطلب سوى جزء يسير من العمر، والشاعر المرهف عبد القادر سليم أدرك بحسه هذه الحقيقة فنظمها في بيتين من الشعر:
فإذا حييت ملأت هذي الأرض بشراً... وإذا قضيت عرفت كيف تموت حراً

الشهادة وسيلة لا غاية
الحياة في سبيل الله هي حياة الاستقامة الصادقة على مراد الله فعلاً وتركاً، ظاهراً وباطناً، وموافقة الشريعة في مقاصدها ووسائلها، ولا شك أن هذا يعني بلوغ مرتبة الصديقية التي هي أعلى مراتب الإيمان بعد النبوة كما يرمز إليه قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين و الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً)، ومقام الصديقين بداهة أعلى من مقام الشهداء؛ غير أن هذا لا يعني بخس الشهداء حقهم ولا تهوين جهادهم، ولكن لكل درجات مما عملوا.

وفي ترتيب المصالح قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: "وجعل الجهاد تلو الإيمان لأنه ليس بشريف في نفسه، وإنما وجب وجوب الوسائل... قال الله تعالى (ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً)، فجعل الأجر العظيم للقتلى والغالبين، والغالب أفضل من القتيل لأنه حصَّل مقاصد الجهاد، وليس القتيل مثاباً على القتل لأنه ليس من فعله، وإنما يثاب على تعرضه للقتل في نصرة الدين" اهـ.
ولما رأى المثنى بن حارثة الناس يتسابقون إلى الشهادة في معركة الجسر وقد سيطرت على أحاسيسهم، وليس لهم غاية سواها غافلين أنها وسيلة، قال: (هلك قوم جعلوا الشهادة غايتهم فحسب).

اجتباء الاستبقاء
والأصل في هذا قول الحق (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)، يقول سيد في الظلال: "وقد آن أن تتوزع الجهود في الجهاد وفي عمارة الأرض وفي التجارة وفي غيرها من شؤون الحياة التي تقوم بها أمة ناشئة... والذي يستقيم عندنا في تفسير الآية: أن المؤمنين لا ينفرون كافة، ولكن تنفر من كل فرقة طائفة على التناوب بين من ينفرون ومن يبقون لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة، وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم، بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة.

وهذا ملمح مهم جداً.. وهو أن الله كما يصطفي أناساً للشهادة فإنه كذلك يجتبي أناساً يستبقيهم لبناء الحياة وعمارة الأرض، فالذي يصطفيه الله للشهادة ليس بأعظم أجراً ممن يجتبيه الله ليستبقيه لإقامة العبادة بمفهومها الشامل الواسع في البناء والعمارة والنهوض بالأمة والجهر بالحق والسعي في سبيل دمغ الباطل لإزهاقه طالبين رضوان الله حتى يلقوه ثابتين على ثغور الإسلام المختلفة غير مبدلين ولا مغيرين.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني في مسند الشاميين: [يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين].

وهل يظن ظان أن المحدثين الكبار الذين رابطوا على ثغر صيانة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنقيته من أوشاب الوضاعين أقل رتبة عند الله ممن نال الشهادة؟!! أم هل يخطر على قلب مسلم أن أئمة الفقه الكبار – ومنهم الأئمة الأربعة – أدنى منزلة عند الله ممن حظي بالشهادة؟!!

إن علماء المسلمين في شتى الفنون - ولو دنيوية - الذين ساهموا وما زالوا يساهمون في بناء صرح الحضارة الإسلامية لتتبوأ المكانة السامقة بين الأمم ولتكون كلمة الله هي العليا هم في جهاد حقيقي، ومنزلتهم قد تربو على منازل الشهداء.. إننا نحسب أن هؤلاء وأمثالهم مرابطون في سبيل الله ؛ بل قد ينالون درجة الصديقية وهي أرفع درجة وأعلى رتبة عند الله من رتبة الشهداء.

فاللهم استعملنا في طاعتك ، وأحينا في سبيلك ، وأمتنا في سبيلك.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة