الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الغاية من إبطال الوثنية

  • الكاتب:
  • التصنيف:تعزيز اليقين

الغاية من إبطال الوثنية

الغاية من إبطال الوثنية

عرف النّاس في عصور الجاهليّة أنواعاً عديدةً من المعبودات الباطلة، يدعونها من دون الله، ويلتمسون شفاعتها، ويتمسّحون بها ويطوفون حولها .جماداتٌ لا تضرّ ولا تنفع، لا تُبصر ولا تسمع، غير قادرةٍ أن تنصر نفسها فضلاً عن نصرتها لغيرها ، فاعتقد الناس لجهلهم نفعها وضررها، واعتقدوا خطرها وانتقامها، وقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العطاردي قال : "كنّا نعبد الحجر فإذا وجدنا حَجراً هو أخير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب –أي: كومة من التراب-ثم إذا جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به".

معنى الوثنيّة وتجليّاتها :
الوثنية Le polythéisme: " هي معتقدٌ دينيٌّ وطريقة تفكير مؤسسة على الإيمان بعدة آلهة خالقة للكون " (1).

ويعرّفها قاموس الأديان والحركات الفلسفية – الفرنسي- : " الديانة الوثنية هي ملَّة تقدّس عدة آلهة مجتمعة في مجمع للآلهة، تسير من خلاله كل جوانب الكون والحياة" (2).

إن مفهوم الوثنية في علم مقارنة الأديان، واسعٌ شامل، فهو يشمل كل دينٍ أو نِحلةٍ، تؤمن بغير إله واحد.

أما في الإسلام فهو يشمل أيّ نوع من أنواع العبادة التي هي من حقّ الله لغير الله سواء كانت اعتقاديةً أو قوليةً، بدنيةٍ أو ماليةٍ . أو كان جوهر المعبود بشراً ، كحال النصارى، أو حجراً كحال الهندوس والبوذيين، أو قمراً أو ناراً أو بقراً كحال وثنيات الهند والصين، أو مَلَكاً أو شيطاناً، وقد يمتد الحال إلى ظواهر الكون القويّة، كالخسوف والكسوف والأعاصير والكوارث الطبيعية، أو إن ارتقت فكرةٌ في عقل الإنسان لحد التّأليه كالخير والشر، والحب والجمال، أو مذهباً اقتصادياً كتأليه المال .

بعض أنواع الوثنية التي عرفها البشر:
قد رأينا في المبحث السابق، تعريف الوثنّية من خلال مصادر معاصرة، وكيف أن دين الإسلام توسّع في تعريفها لتشمل كل معبودٍ من غير الله تعالى، سواءٌ كانت عقيدة شِركيةً، أو مؤمنة بإله وثنيٍّ واحدٍ.

والوثنية شرك خطيرٌ يُعمي القلوب، ويقفل العقول، فيحول بينها وبين التصور الصادق والإيمان الحقّ، ويطغى على الأوضاع والترميزات الإنسانية فيشوّه هيكلها، ويمسخ صورتها .
وقد نقل لنا القرآن الكريم عدداً من مظاهر الوثنيات المنتشرة، أبرزها: وثنية اليهود والنصارى، حين قال سبحانه : {واتخذ قوم موسى من بعده عجلا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين} (الأعراف: 148).

وقصّة السامريّ التي ذكرها القرآن، اشتهرت في علم مقارنة الأديان المعاصر، حيث أن قرية السامرة عرفت كهّاناً توارثوا سحر الأب الأول – صاحب العجل- ونبّه إلى جاستين مارتير Justine Martyr إلى تفشي السحر في السامريّين وقال : " كان هناك سامري يُدعى سيمون من أهالي قرية غيتو، قام في عهد كلوديوس قيصر .. بأعمال سحرية عظيمة، وقد اعتُبر إلها .. وجميع السامريين تقريباً .. عبدوه وأذعنوا مقرين بأنه الإله الأول " (3).

أما بخصوص المسيحية فقد قال تعالى : {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} ( المائدة: 17).

وقد روى الإمام أحمد والترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، أنه دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي عنقه صليب من فضة فقرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} قال : قلت لم يعبدوهم . فقال : (بلى، إنهم حرّموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم).

هذا الغلو حسب الدكتور دانييل بوسوك Daniel bassuck، راجعٌ إلى تأثّر المسيحيّة بأساطير الوثنيات السابقة، إذ يقول :" أصبح من الواضح أن الأساطير الدّينية الإغريقيّة – الرومانيّة، التي تتحدث عن آلهة تهبط لعالم البشر تظهر على الأرض بشكل إنسان، قد سبق استخدامها لأجل تفسير حياة شخصيات تاريخية، كما أن الأساطير وجدت بشكل مبكر يكفي لجعلها متاحةً وموجودة في المتناول للاستفادة منها وتخصيصها للغرض المسيحي " (4).

وحكى التاريخ عن وثنية الهند والفرس والصين وتماثيلها، والهند وآلهتها ، فالهندوسية Hindouisme على سبيل المثال، وهي ديانة الهند منذ آلاف السنين، قائمةٌ على فكرة التجسد للآلهة الكبرى، وهي فشنو Vishnu، وشيفا shiva، وبراهما Brahma، إضافة إلى مئات الآلهة الأخرى المضافة وصلت إلى حد تقديس البقر (5).

أما الفرس فقد كانت الديانة البابلية تضم أكثر من 4000 إله مجسد في الأصنام، (6).
أما ديانات الصين فكثيرة ومتنوعة، منها عبادة " شنغتاي " – الإله الأسمى – مختلطاً بعبادة الأسلاف وعبادة الأرواح (7).

والجزيرة العربية، لم تكن أفضل حالاً من نظيراتها، بل كانت تعج بكثير من الصور التي تسرّبت إليها عن طريق الجوار الجغرافي، سواءٌ ما رفد إليها من اليهودية والمسيحية، أم من الوثنية الفارسية، أو حتى مما وجد في الجزيرة نفسها من بقايا ملة إبراهيم التي شوّهها العرب ومسخوها، كزعمهم أن الملائكة بنات الله، وكدعواهم أن بين الله وبين الجِنّة نسباً، يقول تعالى : {وجعلوا بينه وبين الجِنّة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون سبحان الله عما يصفون} ( الصافات: 158، 159 ).

وقد كان العرب في وثنيّتهم يعتقدون وجود الله وأنه خالقهم، يقول سبحانه : {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون} ( الزخرف: 87).

ولكنها عقيدة وثنية حيث كانوا يشركون مع الله وسطاء وشفعاء يتقربون بعبادتها إلى الله، ويعتقدون قدرتها على الخير والشر والضرر والنفع، ويتمثل ذلك في الأصنام والأحجار والنجوم والكواكب والأشجار وغيرها، وقد حكى القرآن عنهم ذلك فقال : {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} ( الزمر: 3).

وفي عصرنا الحديث أصبحت الوثنية تتمثّل كما كان الشّأن عند عرب الجاهلية في التمسّح بالأضرحة والمقابر، وطلب الحاجة منها، وفي بعض العادات والتقاليد الاجتماعية التي ورثناها عن المجتمع الجاهلي وهي متنوعة تمارس في كثير من المناسبات: في المواسم والمآثم.

واتخذت الوثنية أيضا مظاهر أخرى في هذا العصر، فظهرت في شكل مذاهب هدّامةٍ وباطلةٍ، فإضافةً إلى معتقدات الصين والهند والفرس المتمثّلة في البوذيّة bouddhisme ، والهندوسيّة hidouisme،والمجوسيّة المعروفة بالزاردشتيّة zoroastrisme، نجد الديانات الطّوطميّة، والدّيانة الطّوطميّة Le totémisme، هي ديانة القبائل البدائية التي تقدّس كائنات "تحترمها بعض القبائل المتوحّشة ويعتقد كلّ فردٍ من أفراد القبيلة بعلاقة نسبٍ بينه وبين واحد منها". (8).

وهي عقائد لازالت مستمرة عند قبائل الزولو zoulous، في إفريقيا، والماساي Massay، وغيرها من القبائل البدائية في مختلف أنحاء العالم . كما تجدر الإشارة أن المسيحية تأثرت بهذه العقيدة وجعلت نسباً بينها وبين الرب وهو البنوّة .

إضافة إلى وثنيات أخرى وإن اختلفت عنها بعض الشيء في مظهرا، كالبهائية bahaïsme والقاديانيةQadianisme ، والعلمانية والماركسية والشيوعية، وهي وثنياتٌ حسب التعريف الإسلامي الموسّع لها، وغيرها من المعتقدات القائمة على تقديس الأشخاص والمال والمادّية والمُثُل والقيم، وصولاً إلى آخر صيحة في المذاهب الفكرية وهي المذهب الكوسمولوجي cosmologie religieuse الذي يتبناه ريتشارد داوكنز وأساسه أن خالق الكون هم الكائنات الفضائية الذكية!

آثار الوثنيّة على حياة عرب الجاهلية :
وقد تغلغلت الوثنية المتطرفة في عرب الجاهلية، وكان لذلك أثره الخطير على نفوسهم وسلوكهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم فيما بينهم على أساس بعض الشعائر الفاسدة التي خطأها القرآن الكريم وأبطلتها السنة المشرفة ومن ذلك ما حكاه القرآن : {ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون} ( النحل: 57).

وقد تركت الوثنية أثرها كذلك في كل جانبٍ من جوانب الحياة الجاهليّة، سواءٌ من النّاحية الأخلاقيّة أو الاجتماعيّة أو السياسيّة، على صعيد الفرد والأسرة والمجتمع. (9).

فمن النّاحية الأخلاقية كانت العصبيّة القبليّة والدموية متحكمة فيهم. ومن الناحية الاجتماعية كانت الأسرة متفككة ومقام المرأة منحطّا عندهم، إلى غير ذلك من العادات المنكّرة في الزّواج والمعاملة. ومن الناحية السياسية كانت الغلبة للقويّ وللحميّة الجاهلية. لا رابطة تربطهم ولا صلة تجمعهم ولا نظام يحكمهم، إلا تلك الأعراف السائدة التي لم تكن تنصر مظلوماً، أو ترد حقاً، أو ترفع ضيماً.

وكانوا في خضمّ هذه الوثنية الضّالة يقلّدون آباءهم في فساد العقيدة، ولا يؤمنون بالحياة الأخرى وما فيها من بعث وجزاء بينما نراهم يؤمنون بالسحر والشعوذة والكهانة والخرافة والطيرة، والتفاخر بالأحساب، والاستسقاء بالأنواء، والدعاء بدعوى الجاهلية، ولطم الخدود، وشق الجيوب في المآثم والنياحة على الأموات إلى غير لك من الأعمال التي تدل على فساد عقيدتهم وشيوع وثنيتهم.

الإسلام يبطل الوثنية :
جاء الإسلام الحنيف فأخرج الناس من ظلمات الشرك ومستنقع الكفر، إلى نور اليقين وطهارة الإيمان، وطوّح بالوثنية وضلالاتها، واستطاع صاحب الدعوة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في ظرفٍ وجيز أن يبني على أنقاض الوثنية صرحاً إسلامياً شامخاً، وعقيدةً سليمة صحيحة، ونفوساً لا تعرف إلا الله ولا ترتبط إلا به.

نعم، جاء الإسلام فدعا إلى عبادة الله وحده، ونبذ كل معبودٍ سواه، وأصلح الفرد والأسرة والمجتمع ومحا الفروق والعصبيات، وجعل التفاضل بالتقوى والعمل الصالح، فعرفت العرب تغيراً اجتماعياً جذرياً، قال الله تعالى : {إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} (الحجرات: 13).

ويقول سبحانه : {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون} ( البقرة: 28 ).

ويقول تعالى : {والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون * وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} (الأعراف 192 إلى 193).

جاء الإسلام، فشنّ حربه على ضلالة الجاهلية من الشعوذة والسحر الباطل، وكل البدع المنكرة والنياحة على الأموات فقال -صلى الله عليه وسلم-: ( ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود، ودعا بدعوى الجاهلية ) رواه مسلم. فحارب كل الدعوات الهدّامة التي تدعو لغير الله، أو تقرّر تقديس المادة أو تدعو لعبادة غير الله من المظاهر الطبيعية، أو المثل والقيم، أو الهياكل والأشخاص . مما نرى عليه المجتمع الإنساني الآن وخصوصا المجتمع الإسلامي الذي توارث أهله بعض العادات الجاهلية واندست إلى حياته بقايا الوثنية الضالة التي عاش عليها المجتمع الجاهلي قبل الإسلام، ومن هنا وجب علينا ونحن أمة هذا الدين أن نعمل على قطع صلتنا بالجاهلية الجهلاء، ووثنيّتها الباطلة ونرجع أبناءنا ومجتمعنا إلى التربية الإسلامية الحق ومنابع الإسلام الصافية.

إن الغاية الكبرى التي يهدف الإسلام لها من إبطال الوثنية في تقرير العبودية لله وحده وإفراده سبحانه بالربوبية والألوهية، والخضوع المطلق له في كل شيء، وإن الحاكمية والولاية والتصرف والخلق والأمر والعبادة لله وحده لا شريك له، قال تعالى : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} (آل عمران: 64)، ويقول سبحانه : {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} (آل عمران: 80).

وروى الإمام البخاري ومسلم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لي : ( يا معاذ! هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟) قلتُ : الله ورسوله أعلم، قال : (فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً ).

فهذه هي الغاية الكبرى وهي تقرير العبوديّة لله، والتي تستتبع تحرير الإنسان من الخضوع لغير الله، فالإنسان في هذا الوجود ليس مسخّرا للوثنيّة وأباطيلها، ولا محدود العقل والنظر تستعبده الأوهام والخرافات، إنما هو كائنٌ بشريٌّ كرّمه المولى عز وجل، وسخَّر لأجله ما في الكون، واستخلفه في الأرض لعمارتها، وميّزه بالعقل والإرادة، وجعله حرّاً مسؤولاً، ومن هنا كانت حريته في عبادة ربه، وكرامته في الخضوع له : {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} (الإسراء: 70).

هوامش المقال
1- القاموس الأكاديمي الفرنسي، ص : 204 .
2- قاموس الأديان والحركات الفلسفية، ص : 51.
3- كتاب " اعتذار "، لجاستين مارتير، ص :26.
4- أساطير التجسّد في الشرق الأدنى، ص :31.
5- راجع كتاب أديان العالم، للدكتور حبيب سعيد ص : 76.
6- راجع المصدر السابق، ص : 47.
7- المصدر السابق، ص : 118.
8- نحو نظرية جديدة في علم الإجتماع الديني، يوسف شلحت، ص :112.
9- نحيل القارئ الكريم إلى قراءة مقالنا بعنوان " الإسلام والتغير الثقافي لعرب الجاهلية " على موقع إسلام ويب .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة