الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لفظ (الرب) في القرآن الكريم

لفظ (الرب) في القرآن الكريم

لفظ (الرب) في القرآن الكريم

يذكر ابن فارس في "مقاييسه" أن لفظ (الرب) يدل على ثلاثة أصول، هي:

الأصل الأول: إصلاح الشيء والقيام عليه؛ فالرب: المالك، والخالق، والصاحب. والرب: المصلح للشيء، يقال: ربَّ فلان ضيعته، إذا قام على إصلاحها. والله جل ثناؤه الرب؛ لأنه مصلح أحوال خلقه. والرباني: العارف بالله عز وجل، والحبر، منسوب إلى الربان. وربَّ الولد: أي رباه حتى أدرك، فـ (الربيب) هو الصبي الذي تربيه، و(الربيبة) الصبية.

الأصل الثاني: لزوم الشيء والإقامة عليه، وهو مناسب للأصل الأول؛ يقال: أربت السحابة بهذه البلدة: إذا دامت. وأرض مُرْب: لا يزال بها مطر؛ ولذلك سمي السحاب رباباً. ويقولون: قد ربّ فلان قومه: أي: ساسهم، وجعلهم ينقادون له. وربيت القوم: أي: حكمتهم وسدتهم، وفي هذا المعنى يقال لصاحب البيت: رب الدار، وصاحب الناقة: رب الناقة، ومالك الضيعة: رب الضيعة.

الأصل الثالث: ضم الشيء للشيء، وهو أيضاً مناسب لما قبله؛ يقولون: فلان يَرُبُّ الناس: أي: يجمعهم، أو يجتمع عليه الناس، ويسمون مكان جمعهم (بالمرّبّ). و(التربُّب) هو الانضمام والتجمع. وتأتي كلمة (الرب) بمعنى السيد أيضاً، فتستعمل بمعنى ضد العبد، أو الخادم.

قال ابن فارس: "ومتى أنعم النظر في هذه الأصول الثلاثة كان الباب كله قياساً واحداً"، ومراده أن هذه الأصول الثلاثة لمعنى (الرب)، ترجع إلى أصل واحد عند النظر والتأمل.

وقيل في اشتقاق لفظ (الرب): إنه مشتق من التربية، فالله سبحانه وتعالى مدبر لخلقه ومربيهم، ومنه قوله تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} (النساء:23)، فسمى بنت الزوجة (ربيبة) لتربية الزوج لها. فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم يكون صفة فعل، وعلى أن (الرب) بمعنى المالك والسيد يكون صفة ذات.

وقد يكون من المفيد القول: ليس من الصواب حصر معنى لفظ (الرب) من حيث الدلالة اللغوية على معنى المربي والمنشئ فحسب، بل هذا المعنى واحد من معاني الكلمة المتعددة الواسعة، وهو معنى تتشعب عنه -بالنظر والتأمل- عدة معان: التصرف، والتعهد، والاستصلاح، والإتمام، والتكميل، ومن ذلك كله تنشأ في الكلمة معاني: العلو، والرئاسة، والتملك، والسيادة.

ثم إن صاحب "الكشاف" ومن تابعه ذهب إلى أن لفظ (الرب) لم يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً، وقد رد ابن عاشور قول الزمخشري بقوله: "وجمعه على (أرباب) أدل دليل على إطلاقه على متعدد، فكيف تصح دعوى تخصيص إطلاقه عندهم بالله تعالى؟"، واستدل ابن عاشور على إطلاقه غير مضاف على غيره سبحانه، بقوله تعالى: {أرباب متفرقون} (يوسف:39)، فهذا إطلاق لـ (الرب) غير مضاف على غير الله تعالى.

ولفظ (الرب) ورد في القرآن الكريم في ثمانية وسبعين وتسعمائة موضع (978)، جاء في مواضعه جميعها بصيغة الاسم، من ذلك قوله عز وجل: {إن الله ربي وربكم فاعبدوه} (آل عمران:51). وقد ورد في أكثر مواضعه بصيغة المخاطب المفرد (ربك)، نحو قوله تعالى: {وإنه للحق من ربك} (البقرة:149). ولم يأت لفظ (الرب) بصيغة الفعل بتاتاً. وأول موضع ورد فيه هذ اللفظ قوله سبحانه: {الحمد لله رب العالمين} (الفاتحة:1).

ولم تذكر كتب الأشباه والنظائر التي رجعنا إليها المعاني التي ورد عليها لفظ (الرب) في القرآن، وغاية ما وقفنا عليه في هذا الصدد ما ذكره الدامغاني في كتابه "الأشباه والنظائر"، حيث ذكر لهذا اللفظ معنيين: (الرب) بمعنى المالك والسيد. و(الرب) بمعنى الكبير.

وبالرجوع إلى ما ذكره المفسرون في هذا الصدد نجد الطبري يذكر ثلاثة معان للفظ (الرب) في كلام العرب؛ فالسيد المطاع يدعى ربًّا، والرجل المصلح للشيء يدعى ربًّا، ومن ذلك قيل: إن فلاناً يرب صنيعته عند فلان؛ إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها، والمالك للشيء يدعى ربه. ثم قال الطبري: "وقد يتصرف أيضاً معنى (الرب) في وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة. فربنا جل ثناؤه: (السيد) الذي لا شبه له، ولا مثل في سؤدده، و(المصلح) أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، و(المالك) الذي له الخلق والأمر".

والزمخشري لم يذكر لمعنى (الرب) إلا معنى المالك. وذكر القرطبي أن (الرب) يعني: السيد. و(الرب) يعني: المصلح والمدبر والجابر والقائم، يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربَّه يربُّه، فهو ربٌّ له ورابٌّ، ومنه سمي الربانيون؛ لقيامهم بالكتب. وفي الحديث: (هل لك من نعمة تربها عليه) رواه مسلم أي: تقوم بها وتصلحها. والرب: المعبود. وذهب ابن عاشور إلى أن "الأكثر في كلام العرب ورود (الرب) بمعنى المالك والسيد".

وقد تتبع الأستاذ المودودي -رحمه الله- موارد لفظ (الرب) في القرآن الكريم، وذكر أنه ورد على خمسة معان، هي التالية:

الأول: (الرب) بمعنى المربي الكفيل بقضاء الحاجات، ومثَّل له بقوله عز وجل: {قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي} (يوسف:23).

الثاني: (الرب) بمعنى الكفيل والرقيب، والمتكفل بالتعهد وإصلاح الحال، ومثَّل له بقوله عز وجل على لسان إبراهيم عليه السلام: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} (الشعراء:77)، وقوله عز وجل: {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} (المزمل:9).

الثالث: (الرب) بمعنى السيد الرئيس، الذي يكون في قومه كالقطب يجتمعون حوله، وإليه يرجعون في أمورهم كلها، ومثَّل له بقوله سبحانه: {هو ربكم وإليه ترجعون} (هود:34)، وقوله تعالى: {قل يجمع بيننا ربنا} (سبأ:26).

الرابع: (الرب) بمعنى السيد المطاع، والرئيس وصاحب السلطة النافذ الحكم، والمعترف له بالرفعة والسيادة، والمالك لصلاحيات التصرف، ومثَّل له بقوله سبحانه: {ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله} (آل عمران:64)، وقوله تعالى: {اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه} (يوسف:42).

الخامس: (الرب) بمعنى الملك والسيد، ومثَّل له بقوله تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت} (قريش:3)، وقوله سبحانه: {قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم} (المؤمنون:86).

وإذا تأملت المعاني الثلاثة الأخيرة التي ذكرها الأستاذ المودودي وجدتها واحداً، وهو معنى (السيد)، وهو المعنى الذي ذكره أكثر المفسرين كمعنى من معاني لفظ (الرب).

والذي أرشدنا إليه البحث أن لفظ (الرب) في القرآن الكريم ورد على المعاني التالية:

- (الرب) بمعنى المالك للشيء، والأمثلة عليه كثيرة، نذكر منها قوله عز وجل: {رب العالمين} (الفاتحة:1)، فهو سبحانه مالك كل شيء. ونحو هذا قوله عز وجل: {قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم} (المؤمنون:86)، أي: إنه سبحانه هو مالك السماوات السبع والعرش العظيم وسيدهما، فلا مالك لهما سواه، ولا سيد لهما غيره. ونحوه قوله تعالى: {وهو رب كل شيء} (الأنعام:164)، قال القرطبي: أي: مالكه.

- (الرب) بمعنى المعبود المطاع، والأمثلة عليه كثيرة، نذكر منها قوله عز وجل: {قل أغير الله أبغي ربا} (الأنعام:164)، أي: أغير الله أتخذ إلهاً أعبده. ومنها قوله تعالى: {إن ربكم الله} (الأعراف:54)، أي: إن المعبود الحق الذي ينبغي أن يُفرد بالعبادة هو الله دون سواه. ومنها قول الباري سبحانه: {ذلكم الله ربكم فاعبدوه} (يونس:3)، أي: إن الله سبحانه هو المعبود الحق الذي ينبغي أن تخلص له العبادة.

- (الرب) بمعنى المصلح للشيء والمدبر له، والمثال عليه قوله عز وجل: {رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون} (الشعراء:28)، قال ابن كثير: "أي: هو الذي جعل المشرق مشرقاً، تطلع منه الكواكب، والمغرب مغربا تغرب فيه الكواكب، ثوابتها وسياراتها، مع هذا النظام الذي سخرها فيه وقدرها". ونظيره قوله تعالى: {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} أي: هو المالك المتصرف في المشارق والمغارب لا إله إلا هو.

- (الرب) بمعنى السيد المطاع، والمثال عليه قوله عز وجل: {قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي} (يوسف:23)، قيل: عنى به الله تعالى، وهو قول يذكره المفسرون، وهو اختيار الأستاذ المودودي، وقيل: عنى به الملك الذي رباه، وهو القول الذي لم يذكر غيره الطبري وابن كثير، قال الأخير: قال ابن كثير: "كانوا يطلقون (الرب) على السيد والكبير". ونظيره قوله تعالى: {اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه} (يوسف:42)، {قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} (يوسف:50)، فـ (الرب) في هذه الآيات بمعنى: السيد المطاع في قومه.

هذا، وقد ذكر بعض المفسرين أن لفظ (الرب) في القرآن جاء بمعنى كبير القوم، وتأول عليه قوله تعالى على لسان قوم موسى: {فاذهب أنت وربك} (المائدة:24)؛ وذلك أن هارون عليه السلام كان أسن من موسى عليه السلام، وكان معظَّماً في بني إسرائيل محبَّباً؛ لسعة خُلُقه، ورحب صدره، فكأنهم قالوا: اذهب أنت وكبيرك. وقد ذكر هذا القول الدامغاني كأحد معنيين للفظ (الرب). قال ابن عطية معقباً على هذا القول: "وهذا تأويل بعيد، وهارون إنما كان وزيراً لموسى ، وتابعاً له في معنى الرسالة".

ومما تقدم من شواهد آيات القرآن، تتجلى معاني لفظ (الرب) في القرآن. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن المعاني الأربعة التي ورد عليه لفظ (الرب) في القرآن لا فواصل حدِّية بينها، بل هي معاني متداخلة، ومترابطة، ومتكاملة، فذكر معنى منها لا ينفي غيره، ولا يستبعده، واللفظ الواحد قد يحتمل أكثر من معنى، بل قد يحتمل المعاني الأربعة المذكورة. ويبقى المعوَّل عليه في ختام المطاف السياق الذي يرد فيه هذا اللفظ، فللسياق دور أساس ومهم في تحديد معنى من المعاني التي ذكرنها لهذا اللفظ، وعلى الله قصد السبيل.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة