الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

واصبر لحكم ربك

واصبر لحكم ربك

واصبر لحكم ربك

في القرآن الكريم آيات كريمة خاطبت النبي صلى الله عليه وسلم تأمره بالصبر على مشاق الدعوة، وتعده بالعون والنصر المؤزر، من تلك الآيات قوله عز وجل: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} (الطور:48)، فهذه الآية تتضمن في جملتها أمراً ووعداً، ولنا معها الوقفات التالية:

الوقفة الأولى: الخطاب في الآية الكريم للنبي صلى الله عليه وسلم تأمره بالصبر على أمر الدعوة، وبالمضي في تبليغها، وتحمل المشاق التي تكتنف طريقها؛ فهو سبحانه قد قضى بأن سبيل إبلاغ الدعوة ليس طريقاً سهلاً يسيراً مفروشاً بالورود، بل هو طريق فيه عقبات وصعوبات، لا بد للداعي أن يتحملها، ويصبر على لأوائها، حتى يبلغ رسالة ربه، ويفوز برضونه، كما قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (آل عمران:142).

الوقفة الثانية: قوله سبحانه: {واصبر لحكم ربك} الأمر بالصبر لحكم الله في الآية يحتمل أن يراد به الصبر على قضاء الله في حمل الرسالة. ويحتمل أن يكون المراد الصبر على البلاء الذي يحصل من جراء تبليغ الرسالة. ويحتمل أن يكون المراد ما حكم به سبحانه وقدره من انتفاء إجابة بعضهم، ومن إبطاء إجابة أكثرهم، وكل هذه المرادات لا تعارض بينها، بل هي متلازمة، ومتعاضدة، وقال : {لحكم ربك} دون أن يقول: واصبر لحكمنا، أو لحكم الله؛ فإن المربوبية تؤذن بالعناية بالمربوب؛ لذلك قال ابن عطية في هذا المقام: "وهذه الآية ينبغي أن يقررها كل مؤمن في نفسه، فإنها تفسح مضايق الدنيا".

الوقفة الثالثة: اللام في قوله عز وجل: {لحكم} يجوز أن تكون بمعنى (على) فيكون لتعدية فعل (اصبر) كقوله تعالى: {واصبر على ما يقولون} (المزمل:10). ويجوز أن تكون بمعنى (إلى) أي: اصبر إلى أن يحكم الله بينك وبينهم، فيكون في معنى قوله: {واصبر حتى يحكم الله} (يونس:109). ويجوز أن تكون للتعليل، فيكون {لحكم ربك} هو ما حكم به من إرساله إلى الناس، أي: اصبر لأنك تقوم بما وجب عليك. قال ابن عاشور: "فللام في هذا المكان موقع جامع، لا يفيد غير (اللام) مثله".

الوقفة الرابعة: قوله تعالى: {فإنك بأعيننا} المراد كما قال الطبري وجمهور المفسرين: فإنك بمرأى منا، نراك ونرى عملك، ونحن نحوطك ونحفظك، فلا يصل إليك من أرادك بسوء من المشركين. وهذا كقوله تعالى لموسى عليه السلام: {ولتصنع على عيني} (طه:39)، وهو بمعنى قوله عز وجل: {والله يعصمك من الناس} (المائدة:67). وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في المراد قوله: نرى ما يُعْمَل بك.

الوقفة الخامسة: هذه الآية وإن كانت خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم -كما هو ظاهر اللفظ- بيد أنها تفيد العموم؛ إذ هو الأصل في الخطاب القرآني، ولا يُحمل الخطاب على الخصوص إلا بدليل يفيد الخصوص، وبالتالي فإن المسلم عموماً والداعي إلى الله على وجه الخصوص مأمور بالصبر على تبليغ دعوة الإسلام للآخرين، ومأمور أيضاً بالصبر على تحمل المشاق التي تعترضه في سبيل ذلك، ومأمور فوق ذلك بالصبر على كل ما ينزل به من البلاء والمحن؛ لأن هذه الأحوال هي التي تكشف المسلم الصادق من غير الصادق، وهي التي تمحص المؤمن الحق من الذي يدعي الإيمان، كما قال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين} (محمد:31)، ومع كل هذا فإن على المؤمن أن يثق بنصر الله ووعده، وأن يوقن أن الله حافظه وناصره ومؤيده ما دام حاملاً لدعوته، وسائراً على درب هديه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة