الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

(إلا) في القرآن الكريم

(إلا) في القرآن الكريم

(إلا) في القرآن الكريم

يذكر أهل النحو أن الأداة (إلا) موضوعة في الأصل للاستثناء، وأنها أم الباب، بمعنى أنها الأداة الرئيسة في باب الاستثناء، وما عداها من أدوات الاستثناء كأنها أخذت هذا الحكم منها بطريق الشبه. قال ابن فارس: "وللاستثناء أدوات موضوعة، فأشدها استيلاء على باب الاستثناء وأكثرها استعمالاً (إلا)".

أنواع (إلا)

(إلا) لم تأت على صيغة واحدة، بل جاءت على عدة صيغ؛ فتأتي بكسر همزتها، وتشديد لامها (إلَّا)، وهذه الصيغة أكثر صيغها استعمالاً، وهي التي تفيد الاستثناء. وتأتي بفتح همزتها، وتخفيف لامها (ألا)، وتفيد التنبيه والتحقيق. وتأتي بفتح همزتها، وتشديد لامها (ألَّا)، وتفيد التحضيض.

(إلا) في القرآن الكريم

وردت الأداة (إلا) بصيغها الثلاث في نحو ستمائة موضع من القرآن الكريم؛ فجاءت في أكثر مواضعها بكسر همزتها، وتشديد لامها (إلَّا)، وجاءت في بعض المواضع بفتح همزتها، وتشديد لامها (ألَّا)، وجاءت في عدد من المواضع بفتح همزتها، وتخفيف لامها (ألا). وتالياً تفصيل القول في هذه الصيغ الثلاث، وما تفيده من معان بحسب ورودها في القرآن الكريم.

(إلَّا) بكسر الهمزة وتشديد اللام

(إلَّا) بحسب هذه الصيغة جاءت في القرآن الكريم تفيد خمسة معان:

الأول: الاستثناء، وهذا المعنى هو الأصل في هذه الأداة، وأكثر ما وردت في القرآن الكريم وفق هذا المعنى. ومن الأمثلة القرآنية التي وردت فيها الأداة (إلَّا) تفيد الاستثناء قوله تعالى: {فشربوا منه إلا قليلا} (البقرة:249)، وقوله عز وجل: {ما فعلوه إلا قليل منهم} (النساء:66). ومنه قوله تعالى: {ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن} (الفرقان:69-70)، وقوله سبحانه: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} (الزخرف:67).

و(إلا) إذا كانت بمعنى (الاستثناء) لها ثلاث أحوال من الناحية الإعرابية:

الأولى: وجوب نصب ما بعدها، وذلك في حالتين:

* أن يكون المستثنى متصلاً (أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه)، مؤخراً، والكلام تامًّا (ما ذُكِرَ فيه المستثنى منه)، موجباً (غير منفي)، نحو قوله عز وجل: {فشربوا منه إلا قليلا منهم} (البقرة:249)، فـ {قليلا} مستثنى من واو الجماعة في {فشربوا}، وخلا من النفي.

* أن يكون المستثنى منقطعاً، والمنقطع ما لا يكون المستثنى من جنس المستثنى منه -سواء أكان موجباً، أو منفياً، نحو قوله تعالى: {ما لهم به من علم إلا اتباع الظن} (النساء:157)، فـ {اتباع الظن} ليس من جنس (العلم).

الثانية: التبعية على البدلية إذا كان الكلام تامًّا، منفيًّا، أو شبه منفي، متصلاً، مقدماً فيه المستثنى منه على أنه بدل بعض، نحو قوله سبحانه: {ما فعلوه إلا قليل منهم} (النساء:66) فـ {قليل} بدل من (الواو) في {فعلوه}، والتقدير: ما فعله أحد إلا قليل. وفي قراءة ابن عامر -وهي قراءة سبعية- {ما فعلوه إلا قليلا} على الاستثناء، قال القرطبي: "والرفع أجود عند جميع النحويين". ونحوه قوله عز وجل: {ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك} (هود:81) برفع {امرأتك} عطفاً على {أحد} وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو البصري. ويجوز النصب في {امرأتك} على الاستثناء، وهي قراءة باقي السبعة، وهي القراءة الأجود والأشهر. ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {وما من إله إلا إله واحد} (المائدة:73)، فـ {إله} الثانية بدل من الضمير في الخبر المحذوف؛ إذ تقدير الكلام: ما من إله موجود أو كائن إلا إله واحد. ونحوه قوله تعالى: {وما من إله إلا الله} (آل عمران:62).

ومن أمثلة البدلية والكلام شبه منفي؛ لأنه استفهام إنكاري، قوله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} (آل عمران:135)، فلفظ الجلالة مرفوع على البدلية من الضمير المقدر؛ إذ التقدير: لا يغفر الذنوب أحد إلا إياه سبحانه. ومثله قوله عز وجل: {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون} (الحجر:56)، فـ {الضالون} مرفوع على البدلية من الضمير المقدر، أي: لا يقنط من رحمته سبحانه أحد إلا من ضل عن هديه، واتبع هواه، وكان أمره فرطاً.

الثالثة: أن يكون الاستثناء مُفَرَّغاً، وهو الذي لا يُذكر فيه المستثنى منه، وحينئذ يكون المستثنى على حسب ما يقتضيه العامل الذي قبله في التركيب، كما لو كانت (إلا) غير موجودة، ويجب حينئذ أن يكون الكلام منفيًّا، كقوله تعالى {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} لأن معنى {يأبى} لا يريد، و(أن) وما دخلت عليه في محل تأويل مصدر منصوب، والتقدير: ويأبى الله إلا إتمام نوره. أو واقعاً بعد نهي، كقوله تعالى: {ولا تقولوا على الله إلا الحق} (النساء:171) بنصب ما بعد (إلا) على المفعولية. أو شبه منفي، نحو قوله سبحانه: {فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} (الأحقاف:35) برفع ما بعد (إلا) على الفاعلية.

المعنى الثاني لـ (إلَّا) أن تكون صفة بمنزلة (غير) فيوصف بها وبتاليها جمع منكر، أو شبهه، فمثال الجمع المنكر قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء:22) فلا يجوز في (إلَّا) هذه أن تكون للاستثناء من جهة المعنى؛ إذ التقدير حينئذ (لو كان فيهما آلهة ليس فيهم الله لفسدتا) وذلك يقتضي بمفهومه أنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم تفسدا، وليس ذلك المراد. ولا من جهة اللفظ؛ لأن {آلهة} جمع منكر في الإثبات، فلا عموم له، فلا يصح الاستثناء منه. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} (النساء:95) فلو كان موضع {غير} (إلَّا) لما اختلف المعنى.

المعنى الثالث أن تكون (إلا) عاطفة بمنزلة (الواو) في التشريك في اللفظ والمعنى. وهذا المعنى ذكره بعض أهل اللغة، وجعلوا منه قوله تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم} (البقرة:150) أي: ولا الذين ظلموا. ونحوه قوله عز وجل: {إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء} (النمل:10-11) أي: ولا من ظلم. وتأولهما جمهور أهل اللغة على الاستثناء المنقطع.

المعنى الرابع أن تكون (إلا) بمعنى (لكن)، وهي تكون بحسب هذا المعنى إذا كان المستثنى من غير جنس المستثنى منه، وهو ما يسمى بـ (الاستثناء المنقطع) نحو قوله تعالى: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى} (طه:2-3)، أي: لكن أنزلناه تذكرة. وقوله تعالى: {لست عليهم بمصيطر * إلا من تولى وكفر} (الغاشية:22-23)، أي: لكن من تولى وكفر. وقوله سبحانه: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} (الدخان:56) أي: لا يذوقون فيها الموت البتة؛ لأنهم خالدون فيها، ثم قال: {إلا الموتة الأولى} على الاستثناء المنقطع، أي: لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا. وقوله سبحانه: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} (الليل:19-20)، فالاستثناء في {إلا ابتغاء وجه ربه} منقطع، أي: لكن ابتغاء لوجه الله.

المعنى الخامس أن تكون (إلِّا) تفيد الاستئناف، أي أن ما بعدها كلام جديد، ومن الأمثلة القرآنية عليه قوله تعالى: {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما} (التوبة:39)، وقوله عز وجل: {إلا تنصروه فقد نصره الله} (التوبة:40)، وقوله سبحانه: {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} (الأنفال:73)، فـ {إلا} في هذه الآيات ونحوها عبارة عن (إن) وهي حرف شرط جازم، و(لا) النافية، والفعل المضارع بعدها مجزوم، وعلامة الجزم حذف النون.

تنبيهات في باب الاستثناء

* الاستثناء لا يكون إلا من معرفة أو نكرة مفيدة، مثال الاستثناء من المعرفة قوله تعالى: {فشربوا منه إلا قليلا} (البقرة:249)، فـ (واو) الجمع في قوله {فشربوا} ضمير رفع معرفة. ومثال النكرة المفيدة قوله سبحانه: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} (العنكبوت:14)، فـ {ألف} أُضيفت إلى {سنة} والإضافة تفيد التعريف.

* يصح استثناء قليل من كثير، وكثير من أكثر منه، وقد يستثنى من الشيء نصفه، قال تعالى: {يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه} (المزمل:1-4) فقد سمى (النصف) قليلاً، واستثناه من الأصل.

* متى دخلت (إلَّا) على ما يقبل التوقيت، تُجْعَل غاية، نحو قوله سبحانه: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم} (التوبة:110) أي: حتى تقطع قلوبهم، دل عليه قراءة يعقوب البصري -وهو أحد القراء العشرة- (إلى أن تقطع) على الغاية، أي: لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا، فيستيقنوا، ويتبينوا.

* الأداة (إلَّا) في بعض المواضع في القرآن تحتمل أكثر من معنى، والسياق قد يرجح أحد المعنيين؛ فقوله سبحانه: {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله} (الأعراف:188)، {إلا} في الآية هنا تحتمل أن تكون بمعنى (لكن)، فيكون الاستثناء منقطعاً، وتحتمل أن تكون بمعنى الاستثناء المتصل، وقد رجح ابن عاشور المعنى الأخير، فقال: "والأولى جعله متصلاً، أي: إلا ما شاء الله أن يملكنيه، بأن يعلمنيه، ويقدرني عليه، فإن لم يشأ ذلك، لم يطلعني على مواقعه، وخلق الموانع من أسباب تحصيل النفع، ومن أسباب اتقاء الضر، وحمله على الاتصال يناسب ثبوت قدرة للعبد بجعل الله تعالى، وهي المسماة بالكسب". ومثل هذا الاحتمال أيضاً يقال في قوله تعالى: {ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا} (الأنعام:80) يحتمل أن يكون الاستثناء هنا متصلاً، ويحتمل أن يكون منقطعاً.

(ألَّا) بفتح الهمزة، وتشديد اللام

(ألَّا) حرف تحضيض مختص بالجمل الفعلية الخبرية، كسائر أدوات التحضيض، والأصل فيه (أن) المصدرية الناصبة، و(لا) النافية. ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله عز وجل: {ألا تعبدوا إلا الله} (هود:2)، وقوله سبحانه في قصة سليمان عليه السلام: {ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض} (النمل:25)، وقوله سبحانه في القصة نفسها: {ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين} (النمل:31)، ونحوه قوله سبحانه: {ألا تشركوا به شيئا} (الأنعام:151). وقول الكريم سبحانه: {وقضى ربك ألا تعبدوا} (الإسراء:23). فـ {ألا} في هذه الآيات ونحوها عبارة عن كلمتين: (أن) الناصبة، و(لا) النافية، أو (أن) المخففة من الثقيلة، و(لا) الناهية، والأفعال بعدها في الآيات منصوبة، أو مجزومة بحذف النون.

(ألا) بفتح الهمزة، وتخفيف اللام

جاءت (ألا) -بفتح همزتها، وتشديد لامها- في القرآن الكريم على معنيين:

الأول: التنبيه والتحقيق، فتدل على تحقق ما بعدها، وتدخل على الجملتين الإسمية والفعلية؛ مثال دخولها على الجملة الاسمية قوله تعالى: {ألا إنهم هم السفهاء} (البقرة:13). ومثال دخولها على الجملة الفعلية قوله عز وجل: {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم} (هود:8). ويقول المعربون فيها: حرف استفتاح، فيبينون مكانها، ويهملون معناها. وإفادتها التحقيق من جهة تركيبها من (الهمزة) و(لا)، وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق، ويتعين كسر (إن) بعد (ألا). قال الزمخشري: "ولكونها بهذا المنصب من التحقيق، لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يُتلقى به القسم، نحو قوله سبحانه: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (يونس:62).

الثاني: العرض والتحضيض، ومعناهما: طلب الشيء، لكن (العرض) طلب بلين، و(التحضيض) طلب بشدة. وتختص (ألا) بحسب هذا المعنى بالجملة الفعلية نحو قوله سبحانه: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} (النور:22)، وقوله عز وجل: {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم} (التوبة:13).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة