الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا تحسبوه شرا لكم

لا تحسبوه شرا لكم

لا تحسبوه شرا لكم

إن المسلم يمرّ بأوضاع وأحوال يرى فيها الشر بادياً مستولياً حتى يكاد يصيبه الإحباط ويقول: ليته لم يكن، ولو كان كذا لكان كذا... وهكذا يبدأ بالتحسر والتلاوم والتغيظ، ولو تفكر في قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن»؛ لاستبشر وأيقن أن الخير كامن فيما يظن أنه شر، والمؤمن بعد زوال الغمّة وانكشافها يدرك أنها كانت خيراً له حتى لو خُيّر بعد ظهور أمرها وانكشاف حقيقتها بين حدوثها وعدم حدوثها لاختار حدوثها رغم ما أصابه منها من لأواء؛ لما يرى من عاقبتها الحسنة التي لم تكن لتحدث بغير تلك الأحوال والأوضاع المكروهة، وقد حدث من ذلك قديماً وحديثاً ما تبيَّن من نتائجه أن ما قدره الله تعالى مما يكره كانت عاقبته إلى خير كبير يربو على ما كان فيها من شر أضعافاً مضاعفة، حيث يميز الله الخبيث من الطيب بهذه الأحداث: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْـخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ}[الأنفال: ٣٧].. وما كان الله ليطلع عباده على الغيب ليعلموا ذلك، بل يبيِّن لهم ذلك بما يقدره من أقدار، كما قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَـكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}[آل عمران:١٧٩].. فتتمايز الصفوف، ويظهر المؤمن الصادق في إيمانه، ويظهر المنافق الذي جعل من إظهاره للإيمان جنة يتقي بها المؤمنين الصادقين، فتنكشف المواقف في زمن وجيز ربما لولا هذه المحن لمكث الناس عدة عقود قبل أن تظهر هذه الأمور على حقيقتها، ومن ثم يأتي التوجيه القرآني في ذلك ليسكّن القلوب ويجعلها راضية مطمئنة تقبل على أمرها بعزم ونشاط: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النور: ١١]، فيكون وقعها على النفس وأثرها أحسن وأفضل من البلسم الشافي.

إن انكشاف المستور من المتخللين للصف حتى يضعفوه، أمر حسن؛ ولذلك فإن الله تعالى يقدر من الأقدار ما يكون سبباً في ابتعاد المنافقين عن الصف المؤمن، أو ينكشف أمرهم كما قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْـخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}[التوبة:٤٦]، فكراهة الله لخروجهم في الصف المؤمن لما يعلمه من الفتن التي يبثونها في الصف وأورثتهم القعود وترك النهوض بعزم للذب عن الإسلام والمسلمين، وقد ورد في الأثر عن معاوية رضي الله تعالى عنه: «لا تكرهوا الفتنة فإنها حصاد المنافقين».

وقد كان من ذلك المكروه غير المرغوب في حدوثه زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قصة الإفك التي رميت فيها السيدة الشريفة الحصان الرزان الصدّيقة بنت الصديق زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى بعدما ذكر قصتها: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}[النور:١١]، فقد كان في ذلك خير كثير، منه: التأكيد على التثبت فيما ينقل وأن لا يسارع الناس إلى تصديق ما يقال بغير بيّنة شرعية، ومنه فضح المنافقين الذين يتخللون صفوف المسلمين، ومنه ما ظهر من عفاف السيدة العفيفة عائشة رضي الله عنها ونزول براءتها في قرآن يتلى بالليل والنهار، حضراً وسفراً، يتلوه الصغير والكبير، في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه؛ ومنه حض المؤمنين على ظن الخير في أنفسهم وعدم قبول الشائعات الكاذبة وتداولها وترويجها، ومنه نزول الرخصة في التيمم بدلاً من الوضوء عند فقد الماء، ومنه ظهور فضل من أمسك عن الخوض في ذلك.

ومن تلك الأحداث ما حدث في غزوة الأحزاب عندما اجتمع المشركون جميعهم على حرب الإسلام وبلغ من جمعهم وقوتهم أن الأرض ضاقت على المسلمين بما رحبت وزلزلوا زلزالاً شديداً وبلغت القلوب الحناجر حتى ظنوا بالله الظنونا، ونجم النفاق، وقال المنافقون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، وقالوا عن المؤمنين: غر هؤلاء دينهم، لكن كان هذا الحدث الجلل متضمناً الخير في ثناياه، إذ ازداد إيمان المؤمنين وأورثهم ذلك الرسوخ والثبات، ولما رأى المؤمنون اجتماع الناس عليهم قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، ولم يزدهم هذا الاجتماع عليهم من المشركين إلا إيماناً بالله ورسوله وتسليماً لما شرع لهم مما تبين به امتيازهم عن غيرهم، إلى أن أذن الله تعالى بانكشاف الملمة وانقشاع الغمة.

وما يحصل من الأذى في كل عصر للمؤمنين يكشف من كان ظاهره معهم وباطنه مع عدوهم، ويبيّن حقيقتهم، فيحذرهم المؤمنون ولا ينخدعون بهم.

وفي عصرنا الحاضر كشف الشر الحاصل في بعض البلدان بعد ثوراتها على الأنظمة الفاسدة، زيغ فئات عن المسلك السوي ما كان يمكن كشفهم بهذا الوضوح لولا ما قدره الله تعالى من تلك الأمور الحادثة، فانكشف من ذلك فئة كبيرة من الإعلاميين الذين فقدوا الاعتصام بشرف الكلمة وأمانتها وأصبحت كلماتهم تباع وتشترى، بحيث رأينا أن المواقف لا تكتسب أحقيتها وصوابها من ذاتها أو مضمونها، وإنما تكتسب صوابها أو خطأها تبعاً لمن صدرت منهم، فتجد الموقف يعاب ويذم وتنصب له المناحات الإعلامية عندما يكون صادراً من فئة معينة، ثم يتكرر الموقف نفسه في الظروف المحيطة بها نفسها من فئة مغايرة فيقال عكس ما كان يقال فيها، فينقلب التصرف المذموم ممدوحاً والتصرف الخطأ صواباً وذلك على حد قول الشاعر:
تقول هذا مُجاج النحل تمدحه .. ..وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير
وفي أدنى الأحوال إذا لم يمكن الدفاع عن المسلك لقبحه الشديد وفظاظته الغليظة التي لا يمكن الدفاع عنها بحال، تلتمس المعاذير التي لا نصيب لها من الصحة أو الصدق.

وانكشفت أيضاً حقائق هيئات ومؤسسات لم يكن يظن بها غير ما أقيمت وجعلت له، فرأينا انحياز القضاء انحيازاً تاماً لجهة محددة، مع أن عمل القاضي لا بد له فيه من الحياد التام حتى يكون عادلاً في حكمه، وكذلك رأينا العسكر بشقيه الشرطة والجيش يسلك المسلك نفسه، ولعل من الخير في ذلك انكشاف كل ما كان مستوراً في أمر هذه المؤسسات مما يتيح التطهير الكامل عندما يتمكن الحق ويسود، وذلك - ربما - أقرب مما نتصور.

وقد كشفت الأحداث تلك الأكذوبة الكبيرة التي تسمى الوحدة الوطنية، فرأينا النصارى يستغلون هذه الأحداث ويشاركون فيها بجد ونشاط ويحدثون نكاية شديدة في المسلمين مما بيَّن صدق كلام الله تعالى عن الكفار الذي عمل كثير من الناس على تأويله بل تحريفه لإخراجه عن حقيقته وظاهره لمصانعة أهل الكتاب وافتعال الصداقة التي لا رصيد لها عندهم.

كيفية الانتفاع
لكن هذه المنافع يلزم لحصولها أمور عدة، من ذلك:
الاستفادة الكاملة من ذلك بتبيان مواقف الناس ومعرفة أقدارهم، وعدم التغاضي عمن ظهرت منه تلك المواقف بزعم الحفاظ على التماسك المجتمعي؛ لأن مثل هذا التماسك لا يكون إلا ظاهراً؛ لأن القلوب مختلفة، ومن ثم الخلاف حاصل، فالموقف الصواب عدم التغاضي عن ذلك وتجاهله، وإنما الصواب بيان ذلك وتوضيحه علّه يكون سبباً في توبة أصحاب هذه المواقف، أو يعرّيهم أمام الآخرين حتى لا ينخدع أحد بهم ويمثلون ثغرة في جسم الأمة تتسع يوماً فيوماً حتى يؤول الأمر إلى الانهيار الكلي للبنيان، وقد بين الله تعالى حكمة ذلك فقال: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْـمُجْرِمِينَ}[الأنعام:٥٥]، فإن من أسباب النصر تمايز الصفوف وإخلاءها من المنافقين أو المخذلين، نسأل الله من فضله الثبات ونصرة الحق وخذلان الباطل، وأن يكون ذلك قريباً.
ـــــــــــــــــــــــــــ
مجلة البيان:322

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة