الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أثر الشبهات في إسقاط الحدود

أثر الشبهات في إسقاط الحدود

أثر الشبهات في إسقاط الحدود

إن النظام الإسلامي كلٌّ لا يتجزأ، فكما أنه لا تُفهم حكمة جزئياته التشريعية إلا في ظل دائرتها الأوسع، بحيث ينظر إلى طبيعة نظامه وأصوله ومبادئه، كذلك لا تصلح هذه الجزئيات فيه للتطبيق إلا أن يؤخذ النظام كاملاً ويعمل به جملة واحدة.

ولعل من أهم القيم التي انبنت عليها الشريعة أصولاً وفروعا؛ العدل، ومن هنا نجد الإسلام حريصاً على العدل، حيث يدقق كل التدقيق في وسائل الإثبات لكي يتأكد من وقوع الجرم ونسبته إلى المتهم، فلا يجوز استعمال أساليب الإكراه في استنطاق الضنين، ومن انتزع منه اعترافاً بالإكراه لا يلزمه إقراره، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ليس الرجل بأمين على نفسِه إذا جوَّعتَه أو ضرَبْتَه أو أوثَقْتَه" رواه سعيد بن منصور في سننه. ومن أهم القواعد المقررة في تنزيل مبدأ العدل في التشريعات الجنائية الإسلامية؛ قاعدة: "درء الحدود بالشبهات".

فالشريعة الإسلامية "بقدر ما تشددت في العقوبات التي فرضتها لجرائم الحدود، حرصت على التضييق من نطاق توقيع هذه العقوبات. ويبدو هذا الحرص جلياًّ في الشروط الخاصة للإثبات التي تتطلبها الشريعة الإسلامية، كما يبدو في الندب إلى ستر الذنوب وعدم التطوع بالإبلاغ عنها أو الإقرار بها، فاشترط شاهدين في معظم الجرائم وأربعة شهود في جريمة الزنا، واشترط أن تكون شهادة معاينة لا شهادة سماعية، وأن تكون ألفاظها صريحة وقاطعة في الدلالة على المشهود به، واشتراط عدالة الشهود" (1).

ويعتبر مبدأ درء الحدود بالشبهات من الأصول المهمة في حفظ الحقوق وتحقيق العدالة بين الناس؛ لأن التشريع الجنائي في الإسلام لا يهدف إلى تعذيب الناس والتنكيل بهم، وإنما حفظ أمن الأفراد والمجتمع على الأنفس والأموال والأعراض، في تكامل وانسجام مع غيرِه من التشريعات الوقائية الزجرية بغية إقامة العدل في الأرض، وحفظ النظام الاجتماعي والأخلاقي للمجتمع وضَمانِ استقامة الحياة؛ قال الله تعالى: { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} (البقرة: 179).

ذلكم أن الأصل في الإنسان براءة ذمته؛ أي: تخلُّصها وعدم انشِغالها بحقّ آخَر، فالإنسان قد خلَقه الله عز وجل على الفِطرة السويَّة في اعتقاده، فكان في غير ذلك مِن باب أولى؛ فإذا كان الله عز وجل قد خلَق الإنسان على الفِطرة خالي الصفحة من كل معصيَة أو خطيئة، فهو خاليها أيضًا في كل التزام وحقٍّ حتى يقوم سبب موجِب لذلك (2).

فاليقين أن الإنسان بَريء مما يُنسَب إليه، ولذا لا يصح في ميزان ذوي العقول السليمة أن يستبدل اليقين الأصلي بشك طارئ، روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعى ناسٌ دماء رجالٍ وأموالَهم؛ ولكن اليمين على المُدَّعى عليه) متفق عليه.

فالمتهم في الإسلام بريء حتى تثبت إدانته، فلا يجوز إنفاذ الحكم إلا بعد أن يبلغ القاضي درجة اليقين أو ما يقاربه في إثبات الجريمة، ونجد هذه القاعدة حاضرةً بقوة من خلال الآثار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ادْرَءُوا الحُدودَ عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج، فخلّوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة) رواه الترمذي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادفعوا الحدَّ ما وجدتم له مدفعا) رواه ابن ماجه.

ومن نبع مشكاة النبوة الفيّاض ارتشف الصحبُ الكرام، فجاءت أقوالُهم كالظل من صاحبه، حيث يقول الفاروق عمـر رضي الله عنه: "لأن أعطل الحدود بالشبهات، أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات" أخرجه عبد الرزاق في المصنف وابن أبي شيبة، وعن عمرو بن شعيب عن أبيٍّ أن معاذاً وعبد الله بن مسعود وعقبة بن عامر رضي الله عنهم قالوا: "إذا اشتبه عليك الحد فادرأه" أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي، وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "ليس الحد إلا في الكلمة التي ليس لها مصرف – أي كلمة لا تحتمل التأويل – وليس لها إلا وجه واحد".

وقد اتفقت كلمة جمهور علماء الشريعة على الأخذ بقاعدة (درء الحدود بالشبهات)، ورتبوا على ذلك أحكاماً مفصلةً لكل حدٍ من الحدود السبعة، و بنوا قاعدتهم هذه وتقبُّلَهم للعمل بها على الأدلةِ التي أوردناها آنفا.
وأوردوا عليهم رحمة الله أنواعا عديدة للشبهات التي تدرأ بها الحدود (3) ، نذكر منها:

- شبهة في تحقق الركن: فمتى ما كانت الشبهة قائمة في ركن من هذه الأركان؛ فإن المتهم يبرأ من الجناية المنسوبة إليه، مثاله أن يجامع الرجل غير زوجته لاعتقاده أنها حليلته، فإن الحد يسقط عنه؛ لانعدام ركن من أركان جريمة الزنا، وهو تحقق القصد الجنائي.

- شبهة في الدليل: فقد قرر الفقهاء بالنسبة لشبهة الدليل قاعدة فقهية فاصلة في هذه الشبهة وهي قولهم: "إنّ كل فعل يختلف فيه الفقهاء حِلاً وتحريماً فإن الاختلاف شبهة تمنع إقامة الحد"(4).

يقول ابن قدامة: "ولا يجب الحد بالوطء في نكاح مختلف فيه كنكاح المتعة والشغار والتحليل، والنكاح بلا ولي ولا شهود ونكاح الأخت في عدة الرابعة البائن، ونكاح المجوسية، وهذا قول أكثر أهل العلم؛ لأن الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، ولقد قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبهة" (5).

ومن هنا كان لثبوت الشبهة أثر في عدم تحقق الركن، وهو كون الفعل الذي قام به محرما شرعا من غير شبهة تمنع الحد.

- شبهة الملك: فمثلا إذا سرق الأب مال ابنه، وثبتت عليه التهمة بثبوت الأركان جميعها يسقط عنه حد القطع؛ لأن الشريعة جعلته مالكا حقيقيا لمال ولده، وأعطته الحق في تملكه متى شاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) رواه أحمد ، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم. ولذلك اعتبر ذلك شبهة أسقطت حد السرقة عن الأب.

- شبهة الحق: تتحقق هذه الشبهة إذا كان للشخص نوع حق فيما أقدم عليه، ولكن هذا الحـق لا يصـلح سبباً للإباحة، إلا أنه يصلح أن يكون شبهة تدرأ الحد. ومن أمثلة ذلك: سرقة الزوج زوجته، أو سرقة الزوجة زوجها، أو من ذي الرحم المحرم غير الآباء ... ولا يعني هذا أن الشارع أحل هذا الفعل بل حرمه ومنعه، لكنه أقامه مقام شبهة تُسقط الحد.

يبقى أن ننبه إلى أمر ربما تبادر إلى الذهن من خلال عرض أنواع الشبهة المسقطة للحدود، وهو اعتراض قد يطرحه البعض: إذا ما أعملنا هذه القاعدة فإننا سنفتح المجال لتملص المجرمين من العقوبة؟!

وجوابه أن درء الحدود بالشبهات لا يعني التهاون بها أو المماطلة في إقامتها، كما لا يعني أيضا إعطاء الجاني فرصةً للتملّص من العقاب وهو يستحقه، إنما يعني ذلك أن لا يقام حد إلا بعد ثبوته قطعيا، بحيث لا تبقى فيه أي شائبة من شك أو اشتباه، حتى لا يعاقب الناس بالظنة، ولا يُؤخذ من لديه عذر مقنع بجعل الحد غير مناسب له، وإنما المناسب له عقوبة أخف من الحد.

وهذا ما يجعل القضاء في الإسلام ينبني على الظن الراجح إن لم يكن اليقين الجازم، ولا يبقى رهين الأخيلة أو الظنون، لذا نجد التعليل النبوي واضحا في الحديث الذي أوردناه أعلاه: (فإن الإمام أن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة).

أ.بدر الدين أراق – إسلام ويب

هوامش المقال
1- في أصول النظام الجنائي الإسلامي، محمد سليم العوا: ص 119 – 120.
2- قواعد الأحكام في مصالح الأنام، العز بن عبد السلام: ج 2، ص 52.
3- لم يُعن الفقهاء بتصنيف الشبهات وبيان تقاسيمها، بقدر ما عنوا ببيان التطبيقات الجزئية لهذه الشبهات، إلا ما كان من فقهاء الحنفية الذين اهتموا بتصنيف الشبهات تصنيفًا محددًا، وتبعهم في ذلك أيضًا فقهاء الشافعية. وقد دمجنا تقسيمات فقهاء المذهبين للشبهة، عملا بقاعدة: الجمع أولى من الترجيح.
4- العقوبة، محمد أبو زهرة: ص 201.
5- المغني، ابن قدامة المقدسي: ج10 ص 155.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة