الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الجمع بين أحاديث الأمر بتخفيف الصلاة

الجمع بين أحاديث الأمر بتخفيف الصلاة

الجمع بين أحاديث الأمر بتخفيف الصلاة

مما يشكل على البعض ما قد يبدو من تعارض بين الأحاديث المروية في باب: التخفيف في الصلاة، وباب، صفة صلاة النبي -عليه الصلاة والسلام- وما يروى من إطالة ركوعها وسجودها، فما هو التخفيف المأمور به، وما هو حد الإطالة المسموح بها؟ جواب هذا السؤال هو موضوع هذا المقال.

روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله أن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، كان يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذاً، فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا، وإن معاذا صلى بنا البارحة فقرأ البقرة فتجوَّزتُ، فزعم أني منافق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يا معاذ! أفتان أنت -قالها ثلاثاً- اقرأ {والشمس وضحاها} و{سبح اسم ربك الأعلى} ونحوها).

وروى مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رجل: يا رسول الله! لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في موعظة أشد غضبا من يومئذ، فقال: (أيها الناس! إنكم منفرون، فمن صلى بالناس فليخفف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة}. وفي رواية: (إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف؛ فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض، فإذا صلى وحده، فليصل كيف شاء). وقد بوب الإمام النووي لهذا الحديث بقوله: (أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام)، ثم قال: "معنى حديث الباب ظاهر، وهو الأمر للإمام بتخفيف الصلاة، بحيث لا يخل بسنتها ومقاصدها، وأنه إذا صلى لنفسه طول ما شاء في الأركان التي تحتمل التطويل، وهي: القيام والركوع والسجود، والتشهد دون الاعتدال، والجلوس بين السجدتين.

فهذه الأحاديث وما في معناها تدل على أن التخفيف في الصلاة في حق من صلى بغيره أمر لا بد أن يراعى، ويشكل على ذلك ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من طول صلاته وإطالته في بعض الصلوات من ذلك: حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ في المغرب بالطور". وفي السنن عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف، فرقها في الركعتين". صححه الألباني. وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب قال: "كان ركوع النبي -صلى الله عليه وسلم- وسجوده وبين السجدتين، وإذا رفع من الركوع -ما خلا القيام والقعود- قريبا من السواء". وفي لفظ آخر: "رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم، فوجدت قيامه، فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبا من السواء".

وقد عقب النووي على ذلك بقوله: فيه دليل على تخفيف القراءة والتشهد، وإطالة الطمأنينة في الركوع والسجود، وفي الاعتدال عن الركوع والسجود، ونحو هذا قول أنس رضي الله عنه: (ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام).

توجيه هذه الأحاديث

قال ابن حجر: "طريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يطيل القراءة في المغرب، إما لبيان الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول قولاً ويأتي بخلافه، فأقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله تخرج من مشكاة واحدة؛ ليكمل بعضها بعضاً". وأما التخفيف الوارد في الأحاديث السابقة فإنه يختلف باختلاف أحوال المأمومين، إذ قد يختلف الناس بعد ذلك في حد التخفيف، فيرجع فيه إلى مجموع الأحاديث لبيان مفهوم التخفيف المأمور به.

قال ابن القيم: "فالتخفيف أمر نسبي، يرجع إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وواظب عليه، لا إلى شهوة المأمومين؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمرهم بأمر، ثم يخالفه، وقد علم أن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة، فالذي فعله هو التخفيف الذي أمر به؛ فإنه كان يمكن أن تكون صلاته أطول من ذلك بأضعاف مضاعفة، فهي خفيفة بالنسبة إلى التي أطول منها، وهديه صلى الله عليه وسلم الذي كان واظب عليه هو الحاكم على كل ما تنازع فيه المتنازعون، ويدل عليه ما رواه النسائي وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف، وإن كان ليؤمنا بالصافات) فالقراءة بالصافات من التخفيف الذي كان يأمر به.

وعليه؛؛ فلا يؤخذ بمطلق أحاديث الأمر بالتخفيف، ويُنكر بها على من أطال في بعض الصلوات وفي بعض الأحوال، ولا يؤخذ بمطلق أحاديث الإطالة ويطالب الناس بمدلولها، بل يراعى في ذلك أحوال المأمومين، ويكون الأصل هو التخفيف، والإطالة أحياناً إذا كانت الجماعة محصورة، وعلم الإمام رغبتهم في الإطالة، وينبغي أن يُفهم التخفيف بالنسبة إلى الإطالة التي كان يطيلها النبي صلى الله عليه وسلم، فالتخفيف والإطالة أمر نسبي، فقد يجعل بعض المصلين قراءة سورة الشمس من الإطالة مع أنه صلى الله عليه وسلم أمر معاذاً أن يقرأ بها تخفيفاً على من وراءه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة