الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إياك وجلد الذات

إياك وجلد الذات

إياك وجلد الذات

في عام 1974م لاحظ المحلل النفسي (هيربرت فرويد نبيرجر)، وهو أمريكي من أصل ألماني، كان يعيش في نيويورك .. لاحظ أن العاملين في مكتب مساعدة مدمني المخدرات، يأتون في البداية بحماس وتفان لا مثيل لهما، وبعد فترة تظهر عليهم أعراض اللامبالاة والاستهتار، بل وربما السخرية والاستهزاء بمن حولهم، ويجدهم في الوقت ذاته يعانون بشدة من ألم بدني ونفسي، يتزايد يوما بعد يوم، فكان أول من استخدم مصطلح "الاحتراق النفسي"، وتوصل إلى أن أكثر المصابين بذلك المرض، هم الأطباء والمعلمون والعاملون في خدمة المسنين والمدمنين والمرضى .. أي المهن التي تتطلب المثالية، والجهد النفسي والبدني الكبيرين.
وكما يقول المختصون أن الاحتراق النفسي ظاهرة لا تصيب إلا ذوي الحماس الزائد الذين يفرطون في تحميل أنفسهم فوق طاقتها من أمور الدراسة أو الوظيفة أو المهنة، مع تجاهل تام لطبيعتهم البشرية وتقلبها بين النشاط والفتور، والحماس والخمول، مع حاجتها دوما للاسترخاء بين الفينة والأخرى.
ولذلك فليس بمستغربا أن نجد هذا الاحتراق النفسي يتمثل في انقلاب تام للموازين من سلبية بعد إيجابية، وكسل بعد نشاط، واستهتار بعد جدية، وربما تتعقد الأمور وتصل إلى الانعزالية والاكتئاب والإدمان.

منارات تفاعلية
- نفسك ليست آلة صماء فترفق بها، فإن (المنبت) الذي انقطع به في السفر وعطلت راحلته ولم يقض وطره (لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى) .. فلا هو قطع الأرض التي يممها، ولا هو أبقى ظهر راحلته لينفعه في المسير، فكذا من تكلف في أعماله، فيوشك أن تنهار نفسه ويدع الأمر بالكلية.
- كتب الدكتور (بيتر ستاينكرون) يقول: "أعتقد أنه لا سعادة حقيقية للإنسان إلا بالكسل!! ..
قد يبدو هذا القول تهكماً, ولكن ما أكثر ما فيه من الحقيقة, فإن الإنسان الذي يقضي حياته في عمل متواصل, لا يتوقف عن ذلك إلا ريثما يزدرد لقيمات تقيم أوده, أو لأن سلطان النعاس غلبه على أمره, لا يمكن أن يكون إنساناً سعيداً في حقيقة الأمر وإذا كان لا يشعر بالتعاسة, فلأنه لم يتسع له الوقت ليسأل نفسه, أو ليعرف طعم الحياة. ولتعلم أنه إذا لم يتسع أمامك الوقت ساعات كل يوم تشعر فيها أن غير مطالب بشيء على الإطلاق, فتستطيع أن تستلقي, أو تتمشى, أو تقرأ .. إذا لم يتسع الوقت ساعات كل يوم لتفعل هذا كما تشاء, فأنت إنسان غير سعيد".

- الابتسامة تخص الإنسان فقط، فكل المخلوقات الحية لا قدرة لديها على الابتسام، فالبسمة من الظواهر التي ميز الله بها الإنسان وحده. وهي تبعث الراحة في النفس وتحفز إفراز هرمونات الاسترخاء.
- أفرغ جهدك مع الأسباب ولا تجلد ذاتك في تحصيل النتائج لأن التوفيق بيد الله وحده، وأرض بما قسم الله لك تكن «أغنى الناس» ..
(ماك ميتكالف) عامل صيانة فقير ربح 65 مليون دولار في إحدى مسابقات اليانصيب، فانتقل فجأةً من فقرٍ مدقع، إلى ثراءٍ فاحش، بعد هذا التحوُّل المفاجئ، تَرَكَ ميتكالف عمله للأبد، وقضى وقتَه في شراء السيارات باهظة الثمن، والحيوانات الغريبة كالعناكب الأمريكيَّة والثعابين، لكن المتاعب لم تمهلْه كثيرًا، فقد وجـد نفسه مضطرًّا لسداد نصف مليون دولار لتسوية نزاع يتعلَّق بزواجٍ قديـم، كما سُرِقَ منه نصف مليون دولار آخر بينما كان مخمورًا، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تطور ليجد ميتكالف نفسه غارقًا في الإدمان، وتجتاحه الشكوك في أن كل من حوله يريدون قتله، وقد أتى التهاب كبده وتَليُّفه ليقضي على بقايا حلمٍ لم يبدأ بعد، وهكذا توفي ميتكالف، عن عمرٍ يناهز 45 عامًا، بعد 3 سنوات فقط من تحقُّق حلمه بالفوز في مسابقة اليانصيب .. صحيفة «نيويورك تايمز» نقلت عن زوجته السابقة قولها: "لو لم يربحْ ميتكالف في هذه المسابقة، كان سيستمر في عمله كالمعتاد، وربما كان سيتمكن من العيش عشرين سنة أخرى، لكن حينما تُعطى هذه الأموال لشخص مثقل بالمشكلات، فإنها فقط تساعده على قتل نفسه".

- تذوق الجمال من حولك، واستشعر روعة الطبيعة وعظمة الخالق، يقول (ألبرت أينشتين): "إن الإنسان جزء من كل ما نطلق عليه نحن اسم «الكون»، وهو جزء محدود من حيث الوقت والمساحة. ورغم ذلك، فإن الإنسان يستشعر وجوده وأفكاره ومشاعره كشيء منفصل عن الكل، وهذا نوع من الخداع البصري الذي يفرضه عليه وعيه .. مهمتنا يجب أن تكون إطلاق سراح أنفسنا من هذا السجن عن طريق توسيع دائرة مشاركتنا الوجدانية بحيث تستوعب كافة الكائنات الحية والطبيعة بأكملها بجمالها".
ومن البؤس النفسي أن ترضي لنفسك أن تكون علاقتك بجمال الطبيعة محصورة في جعل رنات هاتفك عبارة عن أصوات الطيور، أو شراء زهور صناعية لا تحتاج للري تضعها في ركن غرفتك، أو افتراش نجيلة صناعية صلبة لا تستدعي التقليم في ممرات شقتك.
إن لنفسيتك حقا عليك في أن تهب لها بعض الوقت تُمتع النظر بالخضرة في حديقة عامة أو تستنشق عبق الورود أو تهيم في ضوء القمر أو تداعب الحيوانات الأليفة أو تزرع بعض الرياحين في شرفة غرفتك .. أو على الأقل السير على الأقدام في ذهابك أو إيابك من عملك اليومي.
- اجعل من البساطة منهج حياة، فما خير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما .. قال أهل العلم: "فيه دليل على أن المرء ينبغي له ترك ما عسر عليه من أمور الدنيا والآخرة، وترك الإلحاح فيه إذا لم يضطر إليه، والميل إلى اليسر أبدا، فإن اليسر في الأمور كلها أحب إلى الله وإلى رسوله، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] وفي معنى هذا الأخذ برخص الله تعالى ورخص رسوله صلى الله عليه وسلم والأخذ برخص العلماء ما لم يكن القول خطأ بينا".

وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول حين يبعث البعوث: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) ويقول -صلى الله عليه وسلم-: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) (بعثت بالحنفية السمحة) (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)
وعن الأزرق بن قيس قال: كنا على شاطئ نهر بالأهواز قد نضب عنه الماء، فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس، فصلى وخلى فرسه، فانطلقت الفرس، فخلى صلاته، وتبعها حتى أدركها، فأخذها ثم جاء فقضى صلاته، وفينا رجل له رأي، فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ، ترك صلاته من أجل فرس، فأقبل فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: إن منزلي متراخ، فلو صليت وتركته، لم آت أهلي إلى الليل، وذكر أنه قد صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأى من تيسيره.
- تعب الأرواح مغاير تماما لتعب الأبدان، فتعب الأبدان لا علاج له إلا بالراحة والحمية المناسبة، أما تعب الأرواح فغالبا إما يكون تعب البداية، أو تعب الأداء.
فتعب البداية يجعل المرء مسوفا لا يجرؤ على اقتحام مشروعه المنوط به، إما بسبب طبيعة العمل المملة، أو بسبب صعوبته، فيميل إلى التهرب منه. وكلما طالت مدة التأجيل تزايد شعور المرء بتعب الضغط النفسي والشعور بالتقصير .. ولهذا النوع من التعب، علاج جلي واضح، يتمحور في أحد حلّين:
إمّا أن تبدأ من الأسهل فالأصعب، وتلك طريقة أغلب الناس الذين يبحثون عما يريحهم. وقد لا تكون تلك طريقة ناجحة، حيث يبقى التعب كما هو مصدر إزعاج في مكانه ويضغط على الأعصاب.
وإمّا أن تبدأ بالأصعب، فتفكّ مشكلته. وهذا ما يوصي به رئيس تحرير دائرة المعارف البريطانية (مورتيمر آدلر)، من خلال تجربته الشخصية، فيقول: "عندما أشعر بأنني أتأبّى القيام فوراً بعمل معين، وأحاول أن أتنصل منه، فأدسه تحت كومة من الملفات الأخرى التي يتعين عليّ أداؤها، فسرعان ما أبادر إلى إخلاء مكتبي من كل الملفات، ما عدا ملف هذه المهمة بالذات، وأتصدى لإنجازها قبل سواها على الإطلاق".

أما تعب الأداء فهو أمر تتطلب معالجته مزيداً من الصعوبة بحيث أن المرء في هذه الحال لا يتقاعس عن الشروع في العمل، وإنما يبدو قاصراً عن إنجاز المهمة التي يقوم بها لأسباب لا يمكنه التغلب عليها مهما بذل من الجهد، فينتابه الإحباط وربما الفشل، وتتراكم صدماته عليه ويتفاقم لديه من جراء ذلك عبء الشعور بالإجهاد العقلي.
وتعب الأداء يحتاج لمزيد من الحنكة في التعامل معه مثل تقسيم المهمة الصعبة إلى مجموعة مهمات أصغر يسهل التعامل معها في ترتيب مرحلي مناسب، أو الاستعانة بذوي الخبرات السابقة، أو مجاراة زملاء العمل ورفقاء الدرب من ذوي الكفاءات لتحفيز الهمة على تجاوز الصعوبة، أو تلمح النجاح واستشعار لذة الفوز مما يجعل النفس تستعذب المشاق وتعتصم بالصبر حتى تمرر الأزمة بسلام، كما ينبغي عند استحكام الشعور بالفشل أن نأخذ هدنة قصيرة نتيح فيها للعقل الباطن ترتيب أفكاره ونمكن النفسية من تهيئة جديدة لبداية أكثر حماسا، ولا ننسى سؤال الله التوفيق، فما خاب من لجأ إليه واعتصم بجنابه سبحانه وتعالى.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة