الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كتاب (رقائق القرآن)

كتاب (رقائق القرآن)

كتاب (رقائق القرآن)

كتاب بعنوان "رقائق القرآن" لمؤلفه إبراهيم عمر السكران، تضمن نظرات وخطرات في بعض معاني الإيمان والتدين التي استعرضها القرآن، إنه كتاب أشبه بالرسالة لكنها رسالة غزيرة المضمون، عميمة الفائدة، تمس مشكلات الواقع، وتطرح الحلول في ضوء القرآن الكريم؛ رسالة في جوهرها مشاهدات اجتماعية، مر بها كاتبها، ثم عرضها تحت سراج القرآن الكريم، وانكشف له فيها معان أخاذة في ترقيق القلوب، وتلينها، وتزكيتها، وتطهيرها، وإعادتها لمسارها الطبيعي.

وكان دافع المؤلف لوضع هذه الرسالة -الكتاب- ما يعيشه إنسان العصر عموماً، والمسلم على وجه الخصوص، من استغراق في الأعمال والمهام تستنزف وقته من صباح يومه، إلى وقت نومه، تبدأ بدوام مضٍ، ورسالة جوال، وبريد (إلكتروني)، وتعليق (فيسبوكي)، وخبر (تويتري)، ومقطع (يوتيوبي)، وتنقُّل بين الفضائيات، وصُراخ منبهات في طرق مكتظة، وأعمال مؤجلة، كلما تذكرها الإنسان، قرصه الهمَّ، والتزامات اجتماعية آخذ بعضها بركاب بعض...إضافة إلى المشاهدات الاجتماعية التي عايشها الكاتب في حياته اليومية، والتي أخذ يتأملها في ضوء القرآن الكريم، والتنقل بين آياتها، وتقليب معانيها، واستخلاص هداياتها.

وقد كانت تلك التأملات لا تزيد الكاتب إلا دهشة من أسرار القرآن الكريم في تليين القلوب وترقيقها، وتزكية النفوس وتهذيبها، وبناء السمو والرقي والجمال الأخلاقي والتعبدي فيها.

يطرح المؤلف في مقدمة كتابه السؤال التالي: هل نظم الاتصالات المعاصرة مشكلة؟ ويأتي الجواب سريعاً: لا، بل هي نعمة من الله يجب تسخيرها فيما يرضيه، لا فيما يسخطه، ويردف بالقول: "لقد جنينا منها الكثير، نعم ربحنا، لكن لا أدري، أشعر أننا خسرنا "الصفاء"؛ صفاء الذهن، وخلو البال، والتأمل الرقراق حين يتطامن السكون من حولك...حين يكون الإنسان في فلاة من الأرض، وتناديه عشرات الأصوات تتناهشه من كل جهة، فإنه لا يزداد إلا تيهاً وذهولاً، وأرانا ذلك الرجل الذاهل بين ضجيج المدينة المعاصرة...وخصوصاً إذا انضاف إلى ذلك أنماط الترفيه التي غزت حياتنا، والاسترسال في السهرات مع الأصدقاء في استراحات الضياع".

ويستطرد المؤلف فيقول: "ومن أفظع نتائج هذا الانهماك المضني في تروس المدينة المعاصرة تلك القسوة التي تدب إلى القلوب فستنزف الإيمان، وتفرغ السكينة الداخلية، حتى صارت شكوى شائعة...".

ثم يطرح المؤلف على نفسه وعلى قارئه الأسئلة التالية:

ألم يحن لنا أن نستقطع وقتاً نهرب فيه من هذا التطاحن المعاصر؛ لنعيد شحن أرواحنا بنسيم الإيمان...؟

ألم يأن لنا أن نرقق قلوبنا بالقرآن...؟

ويقرر الكاتب حقيقة مفادها: أن كون القرآن الكريم هو المـَفْزَع في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات، بل وفي كل عصر لتزكية النفوس، وترقيق القلوب، وتصفية الأرواح، وانتشالها من الثقلة الأرضية -وإن شئت قل: من الجاذبية الأرضية- ليس استنباطاً أو وجهة نظر للكاتب، بل هو حقيقة دلَّ عليها القرآن ذاته، ألم يقل سبحانه في محكم كتابه: {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} (القرآن الكريم:45)، وألم يقل تعالى: {قل إنما أنذركم بالوحي} (الأنبياء:45)، وألم يصف القرآن الكريم نفسه بأنه موعظة للناس وشفاء لما في الصدور: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} (يونس:57).

مضمون الكتاب

تضمن الكتاب اثني عشر عنواناً، إضافة إلى المقدمة والخاتمة، وقد جاءت العناوين وفق التالي:

- ذهول الحقائق: يستحضر الكاتب تحت هذا العنوان قصة صاحب عزيز عليه، فَجَأه الموت على حين غرة، ثم يتصور الكاتب وهو في مجلس عزاء ذلك الشخص أن المعزين يظنون أن المصيبة مصيبة غيرهم، وينسون أن هناك ساعة سُجلت لكل منهم، سيغادر فيها هذه الحياة إلى غير رجعى، وأن كل منا يقترب من هذه اللحظة الحاسمة للانتقال للدار الآخرة، والمسكن الأبدي. فالفكرة التي يريد أن يوصلها الكاتب هنا، هي أن اللحظة التي تنتظر كلًّا منا لا تحتمل التأجيل، ولا التقديم، ساعة قررها الجبار عز وجل.

- لحظة فداء: يبين الكاتب هنا أن أهوال يوم القيامة تُنسي المرء أعز الناس إليه، ليس هذا فحسب، بل إن المرء من هول يومئذ يود ليتخلص مما هو فيه من الكرب والشدة أن يفتدي نفسه بأقرب الناس إليه، وهم بنيه وأمه وأبيه، وأصحابه وخلانه، فمحور الحديث هنا يدور على قوله تعالى: {يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه} (المعارج:11).

- الإطراق الأخير: تناول المؤلف تحت هذا العنوان أهمية استحضار لقاء الله، وحقيقة اليوم الآخر، وأن كثيراً من الناس عن لقاء ربهم لغافلون. وبين أن استحضار لقاء الله يغير من نفسية المؤمن وسلوكه؛ وأن من أهم ما يصنعه استحضار لقاء الله في النفوس الزهد في الفضول؛ فضول النظر، وفضول السماع، وفضول الثرثرة والكلام، وفضول الخلطة، وفضول النوم، وفضول تصفح الإنترنيت، ونحوها، فيصبح المرء لا ينفق نظره، ولا سمعه، ولا وقته إلا بحسب الحاجة.

- فضل الصخور على القلوب: يتحدث المؤلف هنا عن قسوة القلب، مبيناً أن القلب إذا قسا خسر القدرة على الاتصال بالله عز وجل، وأن قساوة القلب تحرم المرء من الوصول إلى مقامات الإيمان الرفيعة. وأن من أهم الأسباب التي تؤدي إلى قسوة القلب الغفلة عن ذكر الله. ويخلص المؤلف إلى أن قساوة القلب يجب أن لا تكون شيئاً هامشيًّا في حياتنا، وأن القرآن الكريم منح اهتماماً واضحاً لهذه الظاهرة، فوصفها، وشرح آثارها، وأسبابها، وهدد صراحة من وقع فيها.

- الساعة الخامسة والسابعة صباحاً: هذا العنوان من ألطف عناوين الكتاب حيث يقارن المؤلف بين الساعة الخامسة رامزاً بها إلى صلاة الفجر وأصحاب الفجر، وبين الساعة السابعة رامزاً بها إلى تدافع الناس وتهافتهم على شؤون الدنيا وشواغلها، ليقرر أن المقارنة الأليمة بين هاتين الساعتين هي أكثر صورة محرجة تكشف لنا كيف صارت الدنيا في نفوسنا أعظم من ديننا؛ ومن ثم يخلص المؤلف إلى أن المقارنة بين هاتين الساعتين هي من أهم المفاتيح لمن يعرف منزلة الدنيا في قلوبنا مقارنة بدين الله سبحانه.

- السجود بين السهام: يذكر المؤلف هنا بعض المشاهد الاجتماعية للتفريط في الصلاة، التي هي عمود الدين، والتي أوصى بالحفاظ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يودع الدنيا، ويستقبل الآخرة، مبيناً الأهمية المطلقة للصلاة في ميزان الله سبحانه، وأن الصلاة يجب أن تكون أهم قضية عملية في حياتنا، وأن المؤمن إن كان صادقاً في إيمانه، محباً لمجتمعه ورأى ما آل إليه تطبيق هذه الفريضة لا يملك إلا أن تستبد به الحماسة لإحداث ثورة تصحيحية في وضع الصلاة في المجتمع.

- السهر المجهول: يقصد المؤلف هذا العنوان قيام الليل، وتقصير الكثير في هذه السنة المباركة، فيذكر أن السهر المجهول إنما هو سهر من نوع خاص، إنه سهر مع الله وكتابه، وقد جعل الله (السهر الإيماني) أحد معايير العلم {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} (الزمر:9)، بالمقابل فإن ثمة أقواماً يذهب ليله في تصفح الإنترنيت، ومواقع التواصل الاجتماعي، ومشاهدة مقاطع اليوتيوب، وتعليقات تافهة، لا تقرب من الله، ويبخل على نفسه ركيعات في آخر الليل. ويخلص المؤلف إلى أن من أعظم وظائف (السهر الإيماني) هو الاستمداد من خزائن رحمة الله، إنها لحظات الدعم المفتوح.

- هل مجتمعنا خير من مجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحديث هنا حول ظاهرة النفاق، وأن هذه الظاهرة لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات، حتى إن مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم -الذي كان الوحي فيه يتنزل، والمعجزات تظهر على يده صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك وقع تورط بعض الناس بالنفاق في ذلك المجتمع، فكيف بمجتمعاتنا؟ ومما قرره المؤلف هنا، أن النفاق أثر لتصرفات معينة، كثيراً ما يكون صاحبها لم يتوقع نتائجها، وليس النفاق قراراً يتخذه المرء.

- الراضون: يبين المؤلف تحت هذا العنوان أهمية التسبيح في حياة المؤمن، وأن التسبيح سبيل الرضا النفسي، استدلالاً بقوله تعالى: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى} (طه:130)، وقوله أيضاً: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك} (الحجر:97-98)، فالتسبيح -كما يذكر المؤلف- ترياق تستطب به النفوس، وتُداوى به الغموم، وتكشف به الكروب.

- أقوى الناس: يذكر المؤلف هنا أن القوة الحقيقة مرتبطة بقوة التوكل على الله لا بالتعلق بالأسباب، ويدلل لذلك بقول بعض السلف: "من سره أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله"، فقوة التوكل هي المدد الحقيقي أمام صعوبات الحياة، ويتفاوت الناس في قوتهم، بحسب ما في قلوبهم من التوكل الشرعي. والتوكل على الله هو مقياس الإيمان والإسلام. كما أن التوكل من أعظم وسائل مكافحة مخاطر وسلطة الشيطان. ومن أراد أن يعرف ما هي (الطمأنينة) وما هي (السكينة) وأي هي شيء هو راحة البال فليجرب التوكل.

- كأنك تراه: يبين المؤلف تحت هذا العنوان أن ثمة علاقة وطيدة بين (وعد الله) و(عبودية اليقين) التي هي أعظم مراتب الدين فوق الإسلام والإيمان؛ فكلما تعاظم اليقين في قلب العبد، تنزلت عليه رحمات الله، وانفتحت له بركات القرآن، وأن اليقين هو الطريق إلى أعلى وصف من أوصاف التدين، وهو وصف الإمامة في الدين، وأي شرف لمنزلة (اليقين) أعظم من جعل الشارع لها أعظم مراتب الدين؟

- لم نفعلها، وحسبت علينا! ينبه المؤلف هنا إلى أننا كثيراً -من حيث نشعر أو لا نشعر- نقول أقوالاً، ونفعل أفعالاً، يكون لها أثر سيء عند المتلقين لها، فيعملون بها، فتكتب سيئات في صحائفنا يوم القيامة، ونحمل وزرها يوم الحساب؛ ومن ثم يحث قارئه أن يستحضر دوماً في مجالسه قوله تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} (النحل:25). وقوله عز وجل: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} (العنكبوت:13).

وعلى العموم فالكتاب جدير بالقراءة والتأمل، وفيه خير كثير، وخير ما فيه أنه يقوي الصلة بالله، ويجدد نفسية المؤمن، وينتشلها من زحمة الحياة، ومشاغلها، وهمومها، وغمومها؛ ليعود بها إلى هدي القرآن، الذي احتوى حقائق التدين، وأسرار العلاقة مع الله سبحانه، ودقائق التعامل مع الخلق.

صدرت الطبعة الأولى من الكتاب عن دار الحضارة للنشر والتوزيع في المملكة العربية السعودية/الرباض، سنة 1434ه-2014م، وجاء في خمس وسبعين ومائة صفحة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة