الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإيمان بالغيب..بين اليقين والريب

الإيمان بالغيب..بين اليقين والريب

الإيمان بالغيب..بين اليقين والريب


هي أهم القضايا الوجودية التي خاض فيها الناس قديما وحديثا ولا يزالون..وصنّفت فيه ملل ومذاهب..فهذا يدعي أنه منكر والآخر موقن وثالث مرتاب..والأصل أنه لا يوجد من ينكر الغيب على الحقيقة وإنما هناك تفاوتٌ في درجة الإيمان..فصاحب المنهج التجريبي البحت المنكر لما وراء المادة وهو أشد المذاهب غلوا في إنكار اللامحسوس نراه مثلا لا ينكر المتواتر فتجد لديه إيمانا يقينيا بأن والديه هما والديه على الحقيقة رغم أنه لم يشهد زمن الولادة، وعند كِبَرِهِ لا يشترط فحص الــdna ليتثبَّت فهو يقين حاصل لديه بداهةً..ولم نره ينكر وجود مدن وشوارع لم تطأها قدماه لمجرد حصول العلم اليقيني لديه بالخبر الصادق لا بالحواس أو التجربة العينية.

هي أمثلة بسيطة من الحياة اليومية تبرز بوضوح التناقض الحاصل والكيل بمكيالين في تعاملهم مع قضية الغيب، تناقض نلمسه أيضا في تعاملهم مع قضية أصل الوجود فهم يرفضون وجود الخالق على اعتباره غيب ومن نفس الجهة ينقضون اعتراضهم باقتحامهم نفس عالم الغيب بجعلهم العدم هو البديل وأصل الوجود والذي هو بدوره غيب لم تقم عليه حجة، وفي ذلك اختراق منهم صريح لما وراء المادة بعكس ما يدعيه غلاة المنهج التجريبي. بل إن التناقض نلمسه حتى من داخل المنهج التجريبي ذاته فهؤلاء الغلاة يقبلون ويتبنون الفروض العقلية الغير مثبتة تجريبيا كالبوزن هيغ والمادة السوداء ولكن سرعان ما ينكصون عن نفس هذا المنهج ومقدماته وتظهر نزعتهم الإنتقائية إذا ما تعلق الأمر بإثباتات يرفضونها مسبقا.

المناهج الربوبية بتشعيباتها أيضا لم تنكر عالم الغيب كضرورة عقلية، فهذا الصنف من الناس نجده قد آمن بخالقٍ قديرٍ مريد وهو تعبير عن شعور فطري لا ننكره ولا نعيبه على الربوبي إلا أنه يبقى اختراقا لعالمٍ آخر مخالفا لعالم المادة. اختراق يمارسه الربوبي وينكره على غيره من أهل الأديان وهي المفارقة التي نعيبها على أتباع هذا المنهج..فإيمان الربوبي واللاديني يقترب نوعا ما من إيمان مشركي قريش خاصة من جهة الإشتراك في الفكرة الخفية المُحرِّكة لقضية إنكار الغيب كما نصَّت عليه الأديان..فهم قد آمنوا بالله ومنهم من آمن باليوم الآخر وهو إيمان بغيب ولا شك ولكنهم أنكروا تفصيل ذلك الغيب على النحو الذي جاءت به الرسالة المحمدية أو الرسالات السماوية عموما..يعني أن الإشكال ليس في إنكار عالم آخر غير عالم الشهادة وإنما بشكل أدق إنكار التكليف الذي جاء من عالم الغيب..ثم تجدهم يصورون الأمر على أنه إنكار للغيب وهو خلاف الواقع وخلاف ما يدعون..وما أبلغ الحديث النبوي الذي يكشف لنا عن هذه الفكرة الخفية ونعني الحادثة التي خرج فيها الرسول حتى صعد الصفا ثم جمع إليه المشركين وقال :( أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي)..قالوا ما جربنا عليك كذبا..قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)..قال أبو لهب تبا لك ما جمعتنا إلا لهذا..ثم قام فنزلت: تبّت يدا أبي لهب.

يعني أن الإشكال الحقيقي ليس في أن يأتهم خبر غيبي لم تدركه حواسهم بقدر ما هو رفض للتكليف والإلتزام وهذا واضح في كل من سبق ذكرهم من مناهج بحيث يقبلون الغيب المضمن الدليل على صدقه في شتى المجالات وينكصون إذا ما تعلق بالتكليف..إن العيب ليس في وجود عالم الغيب بل هم لا ينكرونه وإنما ضلوا لأسباب ثلاث أولها الجحود والنفور من التكليف كما سبق واتضح. والثاني هو في بطلان طريقة الإستدلال الموصلة لمعرفة عالم الغيب طريقة تقيس وتسقط عالم الغيب على عالم الشهادة وهذا عيب شائع منتشر لدى جميع المدارس العقلية حتى الإسلامية منها تلك التي تؤمن بالله وبالرسول وبالبعث والجزاء ولكنها بطريقة الإسقاط والقياس أنكرت بعضا منه كسؤال القبر وفتنته ورؤية المؤمن لربه في الجنة والنزول والإستواء..وغيرها من القضايا الغيبية التي يضل صاحبها بمجرد إسقاطها وقياسها على عالم الشهادة ..والخلل في هذه الطريقة أنهم وظَّفوا نعمة الإستدلال في ما لا طاقة لها به..فالإنسان بوسعه أن يستدل بالمحسوسات على وجود خالق عليم قدير وأن يستدل على حقيقة البعث بمجرد نفي العبث..أو أن يستدل بوجود الخير والشر أو الظلم والعدل على حقيقة الجزاء والثواب في الآخرة ..ولكن هل يقدر أن يخوض في دقائق وتفاصيل تلك الحقائق ؟..قطعا لا..فالإستدلال العقلي والفطري على وجود حقيقة اسمها عالم الغيب هي الوسيلة التي تضع جميع البشر على نفس المسافة من الإختبار الإلهي والذي من أجله أنزل الله الكتب وبعث الرسل ألا وهو الإيمان بدقائق الأخبار عن عالم الغيب..فغاية الإيمان هو أن تكون عبدا لله وحده لا تشرك به شيئا وهذا لا يتحقق إلا عندما يكون الإيمان بالغيب على الطريقة التي أرادها الله لا على الطريقة التي أردتها أنتَ وبشرط أن يكون هذا الإيمان في عالم الشهادة فذاك فرعون آمن عند الغرغرة لما رأى ملائكة العذاب فرُدَّ عليه إيمانه إذ أنه وقتها لم يعد مؤمنا بعالم الغيب، بل صار مؤمنا بعالم الشهادة ومؤمنا بالمحسوس : {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } (الأنعام:158).

فصحَّ بذلك أن يكون القياس الفاسد سببا مباشرا في الضلال وسببا في تسلل الشك للقلوب ليحل محل اليقين. كما أن محاولة الإقتصار على العالم المادي والإستناد فقط على المحسوسات هو إلغاء صريح لإنسانية الإنسان وسجنه في قفص حيواني..فالعالم المادي هو بحث في نقاط الإلتقاء بين الإنسان والحيوان والمنحصرة أساسا في الحواس والشهوات بينما العالم الإنساني هو بحث في نقاط الإختلاف بينهما..وهذا الإختلاف ناتج من كون الإنسان يطرح مسائل وجودية غريبة عن عالم المادة..كالبحث في أصل لوجود..وجود الخالق ووجود الإنسان وما مصيره بعد الموت..كلها قضايا تدفع الإنسان دفعا لاقتحام عالم الغيب.. فعالم الشهادة لا يمكّننا إلا من طرحها موقنا بأن هناك إجابة مقرا بعدم امتلاكها.. إذن فمعرفة عالم الغيب هي ضرورة عقلية نظرا لوجود فجوة معرفية في ذهن الإنسان لم يقدر عالم الشهادة على سدها.. فالملحد مثلا يحاول تغطية هذا النقص بالسعي للحصول على أجوبة سواء بفلسفات أو نظريات وهمية سواء في قضية وجود الكون والبحث في العلَّة الأولى أو وجود الإنسان ومحاولة الإيهام بنظرية التطور كتفسير لوجود الحياة وليس هنا مجال البحث في صحة تلك النظريات أو دحضها يكفي أن نتخذها إقرارا صريحا من الملحد أو اللاديني بوجود أسئلة وجودية ضمنية مطروحة لديه وما تلك النظريات والفلسفات إن هي إلا محالة للبحث عن إجابات لكل تلك المسائل وإن كان البحث قد حصره وقسره صاحبه على عالم المادة الشيء الذي جعل منها محاولة يائسة فالبحث عن عالم الغيب في عالم الشهادة هو ضرب من الجنون وسببا مباشرا فيه.. لأن الله عز وجل أراد ان يربط هذا الإنسان بعالم آخر وغاية أخرى سامية غير غاية الوجود المادي والسبيل الوحيد الموصل لتلك الغاية هو الوحي والغيبيات التي تسمو بالإنسان عن عالم المادة..كالجزاء والثواب والملائكة..وتربط الإنسان بالمصير وما سيلقاه بعد الموت.. وأية محاولة لإدراك هاته الحقائق بالعقل أو المادة هي محاولة فاشلة فقصارى جهد العقل أو الحواس هو الوقوف عند حقيقة وجود عالم غيب مضمن لكل الأجوبة الوجودية والتي لا سبيل لمعرفتها إلا بخبر من ذلك العالم..وكأن لسان الحال يُخبرنا بأن الإنسان ليس ابن الأرض وإنما هو ابن السماء..{وفي السماء رزقكم وما توعدون}.

السبب الثالث والأخير أراه في مصادرة الغيب بدعوى الخرافة..وهي مغالطة كانت الكنيسة السبب المباشر فيه..يقول العلامة سفر الحوالي في هذا الباب : " كان الرجل المادي يقف ليخطب أو يتكلم ويدعو الناس فيقول: آمنوا بالحقائق ولا تؤمنوا بالخرافات. إذا سئل ما هي الحقائق، وما هي الخرافات؟ فيقول لهم: الحقائق هي هذه الأمور المشاهدة: أترون السماء، أترون الجبال، أترون الأرض أترون هذه الأشياء المادية؟ إنها حقيقة، فآمنوا بها وآمنوا بكل الماديات، وجربوا، واخترعوا، واكتسبوا، ويقول: أما الغيب فهو ما جاء عن الرب -والرب عندهم يسوع- وما جاء في الأناجيل عن اليوم الآخر، وما جاء فيها من معجزات، أخبار، كل ذلك لا تؤمنوا به ولا تصدقوه؛ لأن العقل والعلم ينفيه. "

وهذا القول لو تأملناه أولى بوصف الخرافة لأن إسقاط وضع خاص على وضع عام بلا دليل هو ما ينطبق عليه وصف الخرافة..فالدليل هو العنصر الأساسي والرئيسي في الحكم على جميع الأطراف وهو المرجح الذي يتبين من خلاله الحق من الخرافة..فما الخرافة إلا دعاوى افتقدت للدليل والبرهان والملحد واللاديني والفرق الضالة جميعها في تعرضها لقضية الغيب لم تستند على دليل في نفيها الجملي أو الجزئي..: { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } (يونس:39).

إن من تكون دعواه بلا دليل سواء في الإثبات أو النفي هو أولى من غيره بمسمى الخرافة..وعالم الغيب لدينا ثابت بقول ربنا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } (فصلت:53).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة