الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

خالدين فيها أبدا

خالدين فيها أبدا

خالدين فيها أبدا

من النظائر القرآنية نقرأ الآيات التالية:

قوله سبحانه في سورة المائدة: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم} (المائدة:119).

وقوله تعالى في سورة التوبة: {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون * أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم} (التوبة:88-89).

وقوله عز وجل في السورة التوبة أيضاً: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} (التوبة:100).

وقوله سبحانه في سورة النساء: {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم} (النساء:13).

وقوله تعالى في سورة الحديد: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم} (الحديد:12).

وقوله عز من قائل في سورة المجادلة: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} (المجادلة:22).

وقوله سبحانه في سورة الطلاق: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا} (الطلاق:11).

ما تقدم من الآيات يستدعي بضعة أسئلة، نصوغها على النحو التالي:
أولاً: لِمَ لم يذكر في سورة براءة في الآية الثانية في قوله: {جنات تجري تحتها الأنهار} لفظ {من} وقد ذُكِر في سائر المواضع الأُخر من الآيات؟

ثانياً: لِمَ حُذف لفظ {أبدا} في بعض المواضع القرآنية، ولم يحذف في بعضها الآخر؟

ثالثاً: لِمَ عطف في سورة النساء في الآية (13) بحرف (الواو) من قوله سبحانه: {وذلك الفوز العظيم}، وجاء في سورة الحديد الآية (12) بضمير الفصل {هو} من قوله تعالى: {ذلك هو الفوز العظيم} في حين جاء في سائر المواضع من غير عطف بحرف الواو، وخالياً من ضمير الرفع المنفصل = {ذلك الفوز العظيم

هذه الأسئلة أجاب عنها الخطيب الإسكافي في "درته" بما حاصله:

جواب السؤال الأول: أن قوله تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} وإن كانت عامة في كل صادق مؤمن، فإنها سيقت مساق تكذيب النصارى في دعاويهم الباطلة، ومقالاتهم الكاذبة التي نسبوها إلى عيسى عليه السلام، كما أخبر سبحانه عن ذلك بقوله: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} (المائدة:116) فانكشف هذا عن صدقه عليه السلام، وكذب القوم لما أجاب بقوله: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به} (المائدة:117) فلفظة {الصادقين} في قوله: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} أي: الذين صدقوا في الدنيا، ينفعهم اليوم صدقهم. و(الصادقون) يجوز أن يكون منصرفاً إلى عيسى وأمثاله من الأنبياء صلوات الله عليهم لقوله عز وجل: {بل جاء بالحق وصدق المرسلين} (الصافات:37) أي قال: هم الصادقون، فتكون الإشارة بـ (الألف) و(اللام) إليهم صلوات الله عليهم، وإن كان كل صادق داخلاً في حكمهم من الانتفاع بصدقه.

وكذلك الآية التي في آخر المجادلة جاءت مخبرة عن رسل الله؛ لقوله تعالى في الآية السابقة لهذه الآية: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} (المجادلة:21) ثم قال سبحانه: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار} ثم قال: {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} فكان الذين أخبر الله عنهم بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار: الأنبياء وغيرهم صلوات الله عليهم.

و{من} في هذه الآيات لابتداء الغاية، و{الأنهار} مباديها أشرف، والجنات التي مباديها {الأنهار} من تحت أشجارها أشرف من غيرها. فكل موضع ذُكر فيه {من تحتها} إنما هو عام لقوم فيهم الأنبياء، والموضع الذي لم يُذكر فيه {من} إنما هو لقوم مخصوصين، ليس فيهم الأنبياء عليهم السلام، ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة براءة: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا} فجعل مبادي الأنهار تحت جنات، أخبر الله أنها للصادقين والمؤمنين والذين عملوا الصالحات، وفيهم الأنبياء عليهم السلام، بل هم أولهم، والمعتاد أنها أشرف الأنهار.

والآية التي في سورة المجادلة فيها الأنبياء عليهم السلام، والآية التي في سورة براءة قد خرج الأنبياء عنها؛ لأن اللفظ لم يشتمل عليهم، فلم يخبر عن جناتهم بأن أشرف الأنهار على مجرى العادة في الدنيا تحت أشجارها، كما أخبر به عن الجنات التي جعلها الله لجماعة خيارهم الأنبياء عليهم السلام؛ إذ لا موضع في القرآن ذُكرت فيه (الجنات) و(جري الأنهار تحتها) إلا ودخلتها {من} سوى الموضع الذي لم ينطو ذكر الموعودين فيه على الأنبياء عليهم السلام.

جواب السؤال الثاني: أن حذف {أبدا} في أولى الآيتين اللتين في براءة وآية سورة المجادلة؛ لأنه ذُكر قبل الآية التي في سورة براءة قوله سبحانه: {وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون} وذُكر بعد الآية التي في آخر سورة المجادلة قوله تعالى: {رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا أن حزب الله هم المفلحون} فاستغنى بذكر {خالدين} عن ذكر قوله: {أبدا} في هاتين الآيتين لما طال الكلام، إضافة إلى النص على فلاحهم وثناء الله عليهم.

أما في آية سورة النساء فإنها لم تذكر {أبدا} لأن بعده في مقابلة {خالدين فيها} قوله سبحانه: {خالدا فيها} في قوله عز وجل: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} (النساء:14) ولم يقل {أبدا} فلو ذُكر فيهما أبداً لطال الكلام، فاستغنى بقوله: {خالدين} و{خالدا فيهما} عن {أبدا}.

وكذلك في آية سورة الحديد؛ فإنه لما ذُكر قبله قوله سبحانه: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم}، فلما طال الكلام في مدحهم، وذكر بعد ذلك تأكيداً بقول الله تعالى: {هو} استغنى بقوله: {خالدين} عن {أبدا}. وهذا أيضاً الجواب عن إدخال ضمير الفصل {هو} بعد ذلك؛ لأنه ذكر ذلك بدلاً وتأكيداً عن {أبدا} وليس كذلك في المواضع الأُخر.

جواب السؤال الثالث: أما إدخال (الواو) في قوله تعالى: {وذلك الفوز العظيم} في سورة النساء، مع عدم الإتيان بقوله سبحانه: {أبدا} فلإدخال (الواو) في مقابلة قوله سبحانه في الآية التالية: {وله عذاب مهين} من قوله عز وجل: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} (النساء:14) فأدخل (الواو) في قوله سبحانه: {وذلك الفوز العظيم} أي: وذلك لهم الفوز العظيم، وليس كذلك في المواضع الأُخَر، إذا تأملت ما قبلها وما بعدها.

هذا حاصل ما أجاب به الخطيب الإسكافي عن التناظر بين هذه الآيات، وما ذكره لا يخرج عن كونه اجتهاداً منه في بيان هذه الفروق، وقد يُوافق عليه وقد يُخالف، وحسبه أنه اجتهد.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة