الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

...ثم انظروا...فانظروا...

...ثم انظروا...فانظروا...

...ثم انظروا...فانظروا...

من النظائر القرآنية التي تستوقف القارئ لكتاب الله الآيات التالية:

قوله تعالى: {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} (الأنعام:11).

قوله سبحانه: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين} (النمل: 69).

قوله عز وجل: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير} (العنكبوت:20).

قوله عز من قائل: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين} (الروم:42).

يُلاحظ على هذه الآيات أنها اتفقت على الأمر في السير في الأرض، وافترقت في متعلق النظر، فالآية الأولى أمرت بالنظر في عاقبة المكذبين، والثانية أمرت بالنظر في عاقبة المجرمين، والثالثة أمرت بالنظر كيف بدأ الله الخلق الأول ثم الله ينشئ النشأة الآخرة، والرابعة أمرت بالنظر في عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين. هذا الافتراق الأول في هذه الآيات من جهة تعقيب كل منها على الأمر بالنظر.

أما الافتراق الثاني فهو أن آية الأنعام جاء عطف الأمر بـ (النظر) على الأمر بـ (السير) في الأرض بحرف العطف (ثم) أما الآيات الثلاث الأُخر فقد جاء عطف الأمر بالنظر على الأمر بالسير في الأرض بحرف العطف (الفاء). وهذان الافتراقان يطرحان السؤالين التاليين:

الأول: لماذا افترق متعلق النظر في كل آية من الآيات الأربع؟

الثاني: لماذا عُطف الأمر بالنظر على الأمر بالسير في آية الأنعام بحرف العطف (ثم) في حين أنه عُطف في الآيات الأُخر بحرف العطف (الفاء)؟

أجاب ابن الزبير الغرناطي على السؤال الأول بما حاصله: إنه لما تقدم آية الأنعام قوله تعالى: {فقد كذبوا بالحق لما جاءهم} (الأنعام:5) مشيراً إلى أصناف المكذبين من المخاطبين وغيرهم، ثم أشير إليهم بعد في قوله سبحانه: {ألم يروا كم أهكلنا من قبلهم من قرن} (الأنعام:6) وكلهم إنما أُهلك بإعراضه وتعاميه المؤديين إلى تكذيبه، أحيل مَن بعدهم على حال من تقدمهم من المعرضين والمتعامين عن الآيات المذكورة قبل، مع بيان أن تكذيبهم كان السبب في العقوبة التي عوقبوا بها، حيث قال سبحانه: {ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} وتأيد هذا بقوله: {فقد كذبوا بالحق لما جاءهم} على أتم مناسبة وأصحها.

أما آية النمل، فمنزلة على ما تقدم من قوله تعالى: {بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون} (النمل:66) وإنكارهم العودة بقولهم: {أإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون * لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين} (النمل:67-68) وذلك بعد ما ذكر سبحانه ما بسط لهم من الدلائل الواضحات، وقدم لهم الشواهد البينات، من قوله تعالى: {أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون} (النمل:60) فذكِّروا بما يشاهدونه، ويعلمون أن آلهتهم لا تفعل ذلك، فكانت فعالهم بعد هذا إجراماً وتعامياً عن الاعتبار بما ذُكِّروا به، فقيل لهم: {سيروا في الأرض فانظروا} عواقب أمثالكم من المتعامين عن النظر، ولم يقع قبلُ تفسير صريح وتكذيب، وقد بسط من الاعتبار في هذه الآيات ما لم يُبسط قبل في آية الأنعام، فورد التعقيب هنا بوسمهم بالإجرام، فقيل: {فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين} (النمل:69) مناسب لما تقدم من إجرامهم مع الوضوح ومتابعة التذكير وبث البراهين.

وأما آية العنكبوت، فإن الله سبحانه لما قدم ذكر العودة الأخروية بما يقوم مقام الإفصاح في خمسة مواضع من هذه السورة على القرب والاتصال منها، تلك المواضع: قوله تعالى: {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت} (العنكبوت:5) وقوله سبحانه: {وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} (العنكبوت:13) وقوله عز وجل: {واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون} (العنكبوت:17) وقوله تعالى: {وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين} (العنكبوت:18) وقوله عز وجل: {أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير} (العنكبوت:19) ولم يتقدم في السور الأُخر مثل هذا فناسبه إحالتهم وتذكيرهم بالاستدلال بالبدأة على العودة، فقال تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة} (العنكبوت:20).

وأما آية الروم، فقد تقدم قبلها قوله عز وجل: {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين} (الروم:31) وقوله عز من قائل: {ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون} (الروم:54) وقوله سبحانه: {أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} (الروم:35) وقوله تعالى: {هل من شركائهم من يفعل من ذلكم من شئ سبحانه وتعالى عما يشركون} (الروم:40) فلما تقدم ذكر من امتحن بالشرك وسوء عاقبتهم، ولم يتقدم مثل هذا في السور المتقدمة ناسبه ما أعقب به من قوله: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين} فجاء ختام كل آية ما يناسب ما تقدمه من سياق.

أما الجواب عن السؤال الثاني المتعلق بحرف العطف، فحاصله وفق ابن الزبير: أن الآيات التي عُطفت بـ (الفاء) إنما كان الأمر كذلك؛ لأنهم أمروا أن يعقبوا سيرهم بالتدبر والاعتبار، وحصر نظرهم واعتبارهم في المعقب المذكور بعد (الفاء)، ولم تقع إشارة إلى اعتبارهم بغير ذلك. وأما آية الأنعام فإنها افتتحت بذكر خَلْق السماوات والأرض، وجَعْل الظلمات والنور؛ ليُعتبر بذلك، فإنه أعظم مُعْتَبَر وأوسعه، قال تعالى: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} (غافر:57) فكأن الآية في قوة أن لو قيل: سيروا في الأرض فاعتبروا لخالقها، وكيف دحاها لكم، وذللها لسكناكم، وجعل فيها رواسي أن تميد بكم، وفجَّر فيها الأنهار، وغير ذلك من عجائب ما أودع فيها، وكيف جعل السماء سقفاً محفوظاً بغير عماد، وزينها بالنجوم؛ لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، وجعل الشمس والقمر حسباناً وضياء، وزينة للسماء الدنيا، وكيف محا آية الليل لمصلحة العباد، وجعل آية النهار مبصرة إلى ما لا يحصى من منافعها وعجائبها لمن مُنح الاعتبار والافتكار، قال تعالى: {إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين} (الجاثية:3) ثم انظروا عاقبة من كذب ونُبه، فلم يعتبر، فعطف هذا بـ (ثم) المقتضية مهلة الزمان.

وقد أجاب الخطيب الإسكافي عن السؤال الثاني على نحو قريب، فقال ما يفيد: إن قوله: {قل سيروا في الأرض فانظروا} يدل على أن السير يؤدي إلى النظر، فيقع بوقوعه، وليس كذلك العطف بـ (ثم) وذلك أن (الفاء) وقعت في جواب الطلب، ولم تقع فيه (ثم). فقوله في آية الأنعام: {قل سيروا في الأرض ثم انظروا} لم يجعل (النظر) فيه واقعاً عقيب (السير)، متعلقاً وجوده بوجوده؛ لأنه بَعْث على سير بعد سير، لما تقدم من الآية التي تدل على أنه تعالى حثهم على السير في البلاد، والنظر في منازل أهل الفساد، وأن يستكثروا من ذلك؛ ليروا أثراً بعد أثر، في ديار بعد ديار، قد عمم أهلها بدمار، فقال تعالى: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم} (الأنعام:6)، ثم قال: {فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين} (الأنعام:6) فذكر في قوله: {كم أهلكنا من قبلهم من قرن} أي: قروناً كثيرة أهلكناهم، ثم قال: {وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين} فدعا إلى العلم بذلك بالسير في البلاد ومشاهدة هذه الآثار، وفي ذلك ذهاب أزمنة كثيرة ومدد طويلة، تمنع النظر من مصاحبة السير، كما قال في المواضع الأُخر، التي عطفها بـ (الفاء) لما قصد فيها من معنى التعقيب، واتصال النظر بالسير؛ إذ ليس في شيء من الأماكن التي استعملت فيها (الفاء) ما في هذا المكان من الحث على السير في الديار، وتأمل الآثار، فجعل السير في الأرض في هذا المكان مأموراً به على حدة، والنظر بعده مأموراً به على حدة، وسائر الأماكن التي عُطفت بـ (الفاء) علق فيها وقوع النظر بوقوع السير؛ لأنه لم يتقدم الآية ما يحث على السير، الذي حث عليه فيما قبل هذه الآية؛ فلذلك عُطفت بـ (ثم) التي تفيد تراخي المهلة بين الفعلين.

وقد أجاب ابن جماعة في "كشف المعاني في المتشابه من المثاني" عن السؤالين باختصار شديد، فقال ما حاصله: إن آية الأنعام ظاهرة في الأمر بالسير في بلاد المهلكين، فناسب (ثم) المرتبة على السير المأمور به. وفي المواضع الأُخر: الأمر بالنظر بعد السير المتقدم، كقوله تعالى: {أولم يسيروا في الأرض} فناسب أن يأتي بـ (الفاء) كأنه قيل: "قد ساروا، فلينظروا، أو: قد ساروا، فنظروا عند سيرهم". ولما تقدم في الأنعام قوله تعالى: {فقد كذبوا بالحق} (الأنعام:5) ناسب قوله: {عاقبة المكذبين} (الأنعام:11) ولم يتقدم مثله في المواضع التي عُطفت بـ (الفاء).

ومحصَّل الجوابين: أن الافتراق بين هذه الآيات مرده إلى السياق التي وردت فيه كل آية. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة