الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

النَّظريّات اللُّغويَّة الحديثة وحدود استعمالها في فهم الحديث النَّبويّ

النَّظريّات اللُّغويَّة الحديثة وحدود استعمالها في فهم الحديث النَّبويّ

النَّظريّات اللُّغويَّة الحديثة وحدود استعمالها في فهم الحديث النَّبويّ

"إنَّ النَّظريَّات اللُّغويَّة الحديثة من المستجدّات الّتي ظهرت في القرن الماضي لمعالجة مشكلات وصراعات في غير لغتنا وبلادنا، وبأسلوب محمَّل بتيّارات فكريّة منبثقة من أفكار غير إسلاميّة، وقد انساق بعض الباحثين في الانبهار بتلك الطّروحات وتعريبها على نصوص اللُّغة العربيّة، وإنَّ بعض تلك النّظريّات رفعت القدسيّة عن النّصوص كلّها، الأمر الّذي جَرَّ هؤلاء المستغرِبين لإخضاع نصوص السُّنَّة النَّبويّة وغيرها من النّصوص في لغة العرب على طاولة البحث والتّفكيك والتّشكيك والنّقد وخلافه".

هذا ما استهلّ به الباحث الدّكتور أحمد قاسم كسَّار (جامعة مالايا - مملكة ماليزيا) بحثه الذي قدّمه إلى النَّدوة الدَّوليَّة الرَّابعة للحديث الشَّريف وعنوانها: "السُّنَّة النَّبويَّة بين ضوابط الفهم السَّديد ومتطلَّبات التَّجديد".

وقد بيَّن الباحث أنّ هناك اتّجاهًا مضادًّا لهؤلاء، فقد ظهر مَن يرفض بشدّة تلك النّظريّات وأهلها، وإقصاء الضّارّ والنّافع منها عن ميدان نصوص السُّنّة النّبويّة، والتّمسّك بالأوجه اللّغويّة المبثوثة في مصنّفات شروح الحديث، والتّعليقات، والحواشي، وحواشي الحواشي، والاكتفاء بالجهود التّراثيّة في خدمة السُّنّة النّبويّة من النّواحي جميعها ذات المرجعيّة العلميّة الموثوق بها من علماء علم الحديث الشّريف وطلبته.

وذهب الباحث إلى أنّه كي نكون منصفين شرعًا وعلمًا فلا بدّ من القول: إنَّ هناك نظريّات يمكن الإفادة منها كلّيًّا؛ مثل: الوسائل الحديثة في برمجة الحديث الشّريف وعلومه آليًّا، ونظريّات يمكن أخذ شيء منها؛ مثل: النّظريّة التّحويليّة التّوليديّة الّتي تهتمّ بالصّناعة الإعرابيّة الحديثة للنّصوص، وهناك نظريات لا يمكن أخذ شيء منها؛ مثل: الفكر الحداثيّ.

وقد اعتمد الباحث على المنهج التّاريخّي في عرض النّظريّات، وكذلك المنهج التَّحليليّ والنّقديّ في مادّة النّصّ النّبويّ العلميّة في تلك النّظريّات، والمنهج الوصفيّ في الوسائل اللّغويّة الحديثة لخدمة النّصّ النّبويّ والسُّنّة المطهّرة.

وقد تناول الباحث النَّظريّات اللُّغويّة الحديثة الّتي هي دراسة الظّواهر اللُّغويّة لدى الإنسان، فيما يعرف باللِّسانيّات؛ ومنها:

أولًا: (البنيويّة): وهو منهج ظهر في أوربا في كتاب: (محاضرات في علم اللُّغة العام) اهتمّ بالمنحى الشّكليّ الصّوريّ الّذي اتّخذ من اللّغة موضوعًا لها، ودراسة اللّسان في ذاته ومن أجل ذاته، وبذلك أقصيت في هذه المدرسة سياقات الحال، والطّبقات المقاميّة المتنوّعة الّتي ينجز تحتها الخطاب، واستبعدت موضوعات الدَّلالة الّتي هي عنصر رئيس في التّواصل اللُّغويّ الاجتماعيّ.

وقد أوضح الباحث أنّ هذا المنهج مناسب جدًّا في اللّغات الأوروبيّة بالنَّظر لما أصاب هذه اللّغات من التّطوّر، والتّحوّل اللّغويّين عن الأصول التّاريخيّة في لغاتهم، بخلاف اللُّغة العربيّة، ونصوصها المتوارثة بحيث إنّ مَن يتكلّم العربيّة يفهم القرآن والسّنّة.
فهذا المذهب -في رأي الباحث- لا يمكن تطبيقه على النّصوص العربيّة، ومنها الحديث النبوي؛ كون العربيّة قد ارتبطت حلقاتها التّاريخيّة، وحياتها الطّويلة بسلسلة متماسكة الخصائص والصّفات، متواصلة التّناسل والارتباط بالأصل لوجود النّصوص المواكبة لحركة العربيّة خلال تاريخها الّتي ترجع إليها دائمًا وتستمد منها، وتقوّم ما اعوجّ من التّراكيب والصّيغ على أساس المحفوظ من اللّغة على وَفق قوانينها ومعاييرها.

ثانيًا: (التّحويليّة التّوليديّة): وهي الإصلاحات على المنهج البنيويّ، وهذا المنهج هو من وجوه الخلاف النّحويّ المعاصر، حيث إنّ لهذا المنهج نظرة في التّعبير النّحويّ وتسمياته تتماشى عندهم وتطور الزمن، وتتعايش بحسب فكرهم مع توسّع آفاق الدّرس العلميّ وعمق تقنياته.

ثالثًا: (التّداوليّة): وهذا هو منهج المنحى الوظيفيّ بزعامة التّداوليّة الّتي تناولت مستويات مفاهيميّة كالبنية اللّغويّة، وقواعد التّخاطب، والاستدلالات، والعمليّات الذّهنيّة في الفهم اللّغويّ، وعلاقة البنية اللّغويّة بظروف الاستعمال.

وقد أفادت مثل هذه النّظريّة من الثّورات العلميّة الّتي حدثت في أماكنها، وأخضعت العلوم الإنسانيّة إلى المناهج المادّيّة، وحين تطالع تطبيق النّصوص اللّغويّة في تلك النّظريّات تشعر كأنّك تقرأ درسًا في الجبر، أو الهندسة، أو الفيزياء باستخدام رموز، وأرقام، ومخطّطات تزيد النّصّ تعقيدًا وغموضًا وتثقله، ونظريّات النّصّ العربيّ والشّرعيّ في غنى عنها كما يرى الباحث.

رابعًا: (الوصفيّة): وهو منهج يعتمد على وصف اللّغة في فترة زمنيّة محدّدة من تاريخ اللّغة مستعملة في مكان محدّد، وفي مستوى لُغويّ محدّد، والمنهج الوصفيّ هو المنهج الّذي اتّبعه علماء العربيّة في جمْع اللّغة، لكنْ يتعذّر اليوم تطبيقه على العربيّة المعاصرة -عند أهل الاختصاص- بعد أن تمّ الاستقراء للّغة وقواعدها، وثبات قوانينها وأحكامها.

خامسًا: (الحداثة): بعد أن رفعت بعض اللّسانيّات القدسيّة عن النّصّ في لغاتهم، جاء المستغربون والمتشبّهون بهم ليطبّقوا تلك المحاولات على اللّغة العربيّة والنّصوص الشّرعيّة، فكان نصيب النّصّ النّبويّ أن يقع بين أيدي هؤلاء الّذين يشعرون بعقدة النّقص في حضارتهم فيسعون لأخذ ما في تصوّرهم أنّه كامل وجديد عند الآخرين، وإذا وافقت هذه الحالة ميول باحث لديه حماسة المبتدئين، فعندئذٍ سنسمع ما لا يسرّنا كما صرّح أحدهم؛ فقال: "الحديثُ النّبويّ مادّة تاريخيّة لا قدسيّة لها"، وهذا يعني أنّ (الحداثة) تتعامل مع الحديث النّبويّ الشّريف على أنّه تراث، ومجرّد خطاب لُغويّ قابل للنّقد.

وخَلُصَ الباحث إلى أنّ النّصّ النّبويّ ليس نصًّا لغويًّا فحسب، فلا يمكن لمجتهد في اللّغة، أو صاحب نظريّة في اللّسانيّات أن يفكّك النّصّ النّبويّ من دون أن تكون له خلفيّة شرعيّة، وإلا كان حاله كما عبّر عنه ابن عاشور: (كأنّه يتوحّل في خضخاض من الأغلاط حين يقتصر في استنباط الأحكام على اعتصار الألفاظ)، وما ذكره الإمام الغزّاليّ من ضرورة إجراء معاني نصوص الشّريعة مجرى عادات النّظم في كلام العرب.

ومن هنا يجب فهم النّصوص الحديثيّة في ضوء المعهود من أساليب الخطاب عند العرب فيما فُطِرت عليه من لسانها؛ فهي تخاطب العامّ وتريد به ظاهره، وبالعامّ وتريد به العامّ في وجه، والخاصّ في وجه، وبالعامّ تريد به الخاصّ، والظّاهر تريد به غير الظّاهر، وكلّ ذلك يُعرف من أوّل الكلام، أو وسطه، أو آخره؛ فأنَّى لـ(أدوار سابير، وبلومفيلد، وجاكلسون وتروتسكي، وجيسبرسن، ولويس يلمسلف) وغيرهم من اللُّغويّين المُحْدَثين ومَن تابعهم أن يفهموا المرادات العربيَّة في النّصوص الحديثيّة؟!

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة