الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

عواقب الشهوات

عواقب الشهوات

عواقب الشهوات

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإننا نعيش في عصر كثرت فيه الفتن والمغريات.. وتحكمت فيه الغرائز والملهيات.. وتنوعت فيه وسائل الإغراء والشهوات.. وتكاثرت فيه الخطايا والموبقات.. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم:41].

فرضخ أكثر الناس لهذا الواقع الأليم.. واتبعوا أهوائهم.. وقادتهم شهواتهم إلى مقاتلهم، وأعمتهم عن مصالحهم وما فيه سعادتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة. {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}[ مريم:59].

مضى هؤلاء يحتسون كؤوس اللذة من أي مصدر كان.. ويؤمّون قوافل الهوى أنى اتجهت ركائبها.

وهم يعتمدون في ذلك إما على رجاء كاذب، أو أمل بعيد لا ينتهي، أو تحيط بهم غفلة تامة لا أمل في إفاقتهم منها.

أما العقلاء من أهل الإيمان والصلاح فإنهم نظروا إلى عواقب الأمور، ولم تشغلهم البدايات عن الغايات والنهايات، فجعلوا الصبر في الدنيا مركبهم.. والعفاف قائدهم.. والتقوى شعارهم.. فتحملوا مرارة الصبر في الدنيا علماً منهم بحسن الجزاء في الآخرة.. قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ الزمر:10].

وهؤلاء – في الحقيقة – لم يخسروا شيئاً من الدنيا.. أما الشهوات فقد نالوها من وجوهها المباحة.. فتحكموا في أنفسهم وخطموها وزموها.. ولم يجعلوها تقودهم إلى مصارعهم كما فعل الأولون.. لعلمهم أن الصبر في الدنيا عن معصية الله أهون من الخزي والخسران والضياع يوم القيامة.

عواقب الشهوات
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : (الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة..
* فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة.
* وإما أن تقطع لذةً أكبر منها.
* وإما أن تضيّع وقتاً إضاعته حسرة وندامة.
* وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه.
* وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خير له من ذهابه.
* وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه.
* وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذّ من قضاء الشهوة.
* وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك.
* وإما أن تجلب همّاً وغمّاً وحزناً وخوفاً لا يقارب الشهوة.
* وإما أن تنسي علماً ذكره ألذّ من نيلِ الشهوة.
* وإما أن تشمّت عدوّاً وتحزن ولياً.
* وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة.
* وإما أن تحدث عيباً يبقى صفةً لا تزول؛ فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق).

أرأيت – أخي الحبيب – كم هي عواقب إتباع الشهوات وخيمة، فلماذا يؤثر الناس لذة ساعة على نعيم الأبد؟ ولماذا يقبلون على المعاصي والمحرمات إقبال الأسد على فريسته وكأن لسان حالهم يقول: لذات الدنيا نقد.. ونعيم الآخرة نسيئة، ولا نترك نقداً لنسيئة.. ولا يقول ذلك إلا شاك لم يستقر الإيمان في قلبه. وهؤلاء أشر من الذي تغلبهم شهواتهم دون أن يكون لهم تأويلات باطلة..

أخذ الحرام من جهتين:
فما أخذ المرء ما حرم عليه إلا من وجهين:
أحداهما: سوء ظنه بربّه، وأنه لو أطاعه وآثره لم يُعطه خيراً منه حلالاً.
والثانية: أن يكون عالماً بذلك، وأن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ولكن تغلب شهوته صبره، وهواه عقله.
فالأول من ضعف علمه.. والثاني من ضعف عقله وبصيرته. [الفوائد].

وعلاج هذا الضعف يكون بالعمل النافع والعمل الصالح، وجهاد النفس الذي هو أشد من جهاد الأعداء.
قال ابن المبارك في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}[الحج:87] قال: هو جهاد النفس والهوى.

وإذا كان متبع الشهوات يعتمد على جانب العفو والمغفرة وينسى جانب العقوبة، فإن العاقل ينظر إلى عظمة من عصى، يبادر بالتوبة والإنابة، ويضع نصب عينيه قوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}[النساء:123].

فيحجزه ذلك عن كثرة العصيان.. ويمنعه من التعرض لحمى القوي المنان.. وانتهاك محارمه.. قال صلى الله عليه وسلم: [ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله محارمه].

قال ابن الجوزي: وقد تَبْغت العقوبات ـ وقد يؤخرها الحِلم.. والعاقل من إذا فعل خطيئة بادرها بالتوبة.. فكم مغرورٍ بإمهال العصاة لم يُمهل!

وقد تتأخر العقوبة، وتأتي في آخر العمر؛ فيا طول التعثير مع كبر السنِّ لذنوب كانت في الشباب.

فالحذر الحذر من عواقب الخطايا.. والبدار البدار إلى محوها بالإنابة، فلها تأثيرات قبيحة إن أسرعت، وإلا اجتمعت وجاءت.

جهل أصحاب الشهوات
إن الانشغال باللذائذ والشهوات دليل على خفة العقل وضعف البصيرة.
قال ابن الجوزي: ((أشد الناس جهلاً منهوم باللذات، واللذات على ضربين: مباحة ومحظورة. فالمباحة لا يكاد يحصل منها شيء إلا بضياع ما هو مهم من الدين، فإذا حصلت منها حبَّةٌ، قارنها قنطار من الهمّ.. ثم لا تكاد تصفو في نفسها، بل مكدَّراتها ألوفٌ.. فهي تغُّر الغَمر، وتهدم العمر، وتديم الأسى.. ومع ذلك فالمنهوم كلما عبّ من لذةٍ طلب أختها، فلا يزال كذلك إلى أن يختطف بالموت، فيلقى على بساط ندم لا يُستدرك.

فالعجب ممن همته هكذا مع قصر العمر، ثم لا يهتم بآخرته التي لذتها سليمة من كل شائب، منزهة عن كل عائب، دائمة الأمد، باقية ببقاء الأبد!! وإنما يحصل تقريب هذه بإبعاد تلك، وعمران هذه بتخريب تلك.

فواعجباً لعاقل حصيف حسن التدبير، فاته النظر في هذه الأحوال، وغفل عن التمييز بين هذين الأمرين.

وإن كانت اللذة معصية انضم إلى ما ذكرناه: عار الدنيا والفضيحة بين الخلق، وعقوبة الحدود، وعقاب الآخرة، وغضب الحق سبحانه.

بالله إن المباحات تشغل عن تحصيل الفضائل، فذم ذلك لبيان الحزم؛ فكيف بالمحرمات التي هي غاية الرذائل؟!

الإسلام دين الوسطية:
إن الإسلام دين الوسطية والاعتدال والقصد في كل الأمور.. ولذلك فإنه لم يحرم على الناس الشهوات مطلقاً كما فعلت الرهبانية بأتباعها.. ولم يطلق لهم عنان الشهوات مطلقاً كما فعلت الحضارة المادية الإباحية، ومن ينظر اليوم في أحوال العالم المعاصر وما يعانيه من أزمات أخلاقية ليدرك عظمة الإسلام وبديع نظامه الذي هو كفيل بإصلاح البشرية وإخراجها من أزماتها في كل زمان ومكان.

إن العالم الغربي اليوم يحصد ما زرعه من مشكلات تكاد تعصف بالمجتمعات الغربية بأسرها، مما حدا بعقلائهم تمني أن يكونوا في عفة وحشمة أبناء الشرق.. تقول الكاتبة (أرنون): (لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم خير وأخفّ بلاء من اشتغالهن بالمعامل حيث تصبح المرأه ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد؛ ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين، فيها الحشمة والعفاف والطهارة)[المرأة وكيد الأعداء].

عواقب أخرى للشهوات:
إن عواقب الشهوات لا تقتصر على العواقب الأخروية فحسب، بل هناك عقوبات يصطلي بنارها أهل الشهوات في الدنيا قبل أن يصطلوا بنار الآخرة.. ومن ذلك :
1- الطواعين العامة والأمراض الفتاكة التي يسلطها الله على أهل الشهوات، ومن أشهر هذه الطواعين والأمراض: مرض الإيدز الذي يفتك كل عام بملايين البشر، والذي يصيب شخصاً كل أربعة دقائق في العالم.

2- الموت العام الذي يسلطه الله على الناس لعلهم يرجعون عن غيهم ويعودون إلى رشدهم، وقد كثر الموت العام في هذه العصور المتأخرة وتنوعت أسبابه من زلازل وفيضانات وانهيارات أرضية وتغيرات مناخية وجفاف وغير ذلك. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم:41].

3- كثرة الحروب وما ينتج عنها من ضحايا يعدون بالملايين.

4- تفكك عرى الحياة الزوجية بسبب الخيانات الزوجية وانفلات كل من الزوجين، وانشغال كل منهما بإشباع غريزته التي تزداد يوماً بعد يوم قوة وسعاراً.

5- ضياع الأبناء بسبب عدم تحمل الآباء مسؤولية تربية أبنائهم، بل إن كثير من الآباء في العالم الغربي من يطرد ابنته من البيت ويطالبها بالإنفاق على نفسها ولو عن طريق امتهان البغاء وممارسة الرذيلة.

6- تزايد جماعات الشواذ والاعتراف بحقوقهم حتى صار الزواج بين المثلين – الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة – أمراً شائعاً لا غرابة فيه!! وهذا – بلا- شك يهدد بفناء الجنس البشري، ويدمر العلاقات الإنسانية بين بني البشر.

النجاة في الصبر والتقوى
فاحذروا لجَّةَ بحر الشهوات، ولا تغتروا بسكونه، وعليكم بالساحل، ولازموا حصن التقوى، فالعقوبة مُرّة.

واعلموا أن في ملازمة التقوى مرارات من فقد الأغراض والمشتهيات، غير أنها في ضرب المثل كالحمية تعقب صحة، والتخليط ربما جلب موت الفجأة.

بالله لو نمتم على المزابل مع الكلاب في طلب رضى الخالق كان قليلاً في نيل رضاه.

ولو بلغتم نهاية الأماني من أغراض الدنيا ، مع إعراضه عنكم ، كانت سلامتكم هلاكاً، وعافيتكم مرضاً، وصحتكم سقماً، والأمر بآخره، والعاقل من تلمّح العواقب.. فصابروا رحمكم الله على هجير البلاء، فما أسرع زواله.

والله الموفق إذ لاحول ولا قوة إلا به، ولا قوة إلا بفضله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
دار الوطن

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

قضايا شبابية

الاهتمام بالقلوب

سلامة القلب وطهارته وصفاؤه ونقاوته، مطلب رباني، ومقصود شرعي، وكلما طهر قلب العبد كان من أفضل الناس.. فعن عبد الله...المزيد