الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الـتــغــافـل والـتــجــاهـل ..

الـتــغــافـل والـتــجــاهـل ..

الـتــغــافـل والـتــجــاهـل ..

الإنسان اجتماعي بطبعه، يألف ويؤلف، ومع كم تلك العلاقات التي قد تكون بعضها هبة من الله ونعمة، والتي يعد بعضها درسا وابتلاء وأذى، كلا بحسب طبيعته وتربيته، فقد خلق الله الناس من ماءٍ وطين، بعضهم غلب ماؤه طينَه فصار نهرا، وبعضهم غلب طينُه ماءَه فصار حجراً، والتي يكون الشخص حينها في حيرة من أمره كيف يتعامل مع تلك العلاقات، سواء كانت ذات قرابة أم لا، فكان هناك التغافل والتجاهل.

وقد بحثت عن إن كان هناك فرق بين التغافل والتجاهل أم هما سيان؟ ومن خلال بحثي وجدت أن هناك من يخلط بينهما، ويعطيهما نفس المعنى، وهناك من يفرق بينهما، والذي لاحظته أن الفرق بينهما بسيط ودقيق، وهو أن:
التغافل: رسالة ودّ واحترام.
وأما التجاهل: فهو دلالة إهمال وازدراء.
فالتغافل لغة: تظاهر بالغفلة أو تعمَّدَها.
أما التجاهل: إِظْهَارُهُ عَدَمَ مَعْرِفَتِهِ وَهُوَ يَعْرِفُهُ.
وكلاهما يعد من وسائل التواصل مع البشر، وهما فن لابد من الإلمام به، فالتغافل: وسيلة لتنبيه الشخص أنني حريص على دوام علاقتي معه، وأنه يعني لي.
وقد قيل في التغافل: هو أن تغض الطرف عن الهفوات، وألا تحصي السيئات، وأن تترفع عن الصغائر، ولا تُركِّز على اصطياد السلبيات، فهو فن راق لا يتقنه إلا محترفو السعادة، وقد قالت العرب قديما:
لَيْسَ الْغَبِيُّ بِسَيِّدٍ فِي قَوْمِهِ ... لكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ المُتَغَابِي (أَيْ المُتَغَافِل).

أما التجاهل: فهو انتقام راق وصدقة على فقراء الأدب.
وقد قيل: إن التغافل يكون من شخص لشخص محب، أو ذي قرابة، كأن يرتكب خطأ فنتغافل عن ذلك كأنه لم يفعله.
وأن التجاهل يكون مع من نصادفهم في حياتنا العابرة، ممن أساء وأخطأ، فنتجاهله كأنه لا يعني لنا هذا الشخص شيئا.
والحقيقة أن كلاهما يستعمل كل بحسب حالته، كيف؟
بداية يجب أن نعلم أن التغافل يكون في حالة كان الخطأ الصادر عن هذا الشخص وخاصة من كانت له صلة قرابة معنا:
- أن يكون الخطأ نادرا (فالنادر لا حكم له)، وهنا نتغافل.
- أن يكون فيما يمكن احتماله.
- أن يكون فيما لا يمكننا تغييره.
أما فيما لو كان ذلك الخطأ متكررا، ولا يمكن احتماله، ونعلم أن هذا الشخص قادر على التغيير، هنا قبل أن نبدأ المرحلة الثانية وهي (التجاهل) فإن هناك مرحلة بينهما وهي: (البوح والتصريح) بمدى انزعاجنا من ذلك الشيء، فالتغافل يعطيك فرصة لتتأكد من الدافع وراء تصرفهم معك، لا نخجل من ذلك، فقد يكون الشخص غير متعمد، أو لا يعلم أن فعله ذلك يزعجنا، فإن انتهى، فبها ونعمت، وإلا كان التجاهل، فالتجاهل يمكن أن ينقذك من كلام أو تصرفات تؤدي إلى فشل علاقة، أو تمادي في الكلام، وعليه يكون التجاهل أفضل حل في ذلك الوقت.

ويلزم أن نوضح أن التجاهل أنواع، فهو إما أن يكون:

- تجاهلا للشخص، وكأنه غير موجود، حتى ينتبه ويعود لرشده ويعتذر عما بدر منه، وقد قيل: إن القليل من التجاهل يعيد كل شخص إلى حجمه الطبيعي.
- أو تجاهلا للذكريات والمواقف المؤلمة، وجعلها وراء ظهورنا بأن نبدأ صفحة جديدة في حياتنا، بل وجعلها حافزا لنا للانطلاق نحو حياة وأمل مشرق.
- أو تجاهلا للكلمات المسيئة لنا، ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة "عندما كان يشتمه كفار قريش وينادونه مذمما، فما كان منه إلا أنه قال:- «أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ؛ يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ». (رواه البخاري)–صلوات الله وسلامه عليه-"، أيضا ما أرشدنا إليه ديننا الحنيف في قوله تعالى في سورة الفرقان آية 63 (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً)، والجاهل: هو السفيه الذي لا يزن الكلام، ولا يضع الكلمة في موضعها، ولا يدرك مقاييس الأمور لا في الخلق ولا في الأدب.
وقوله تعالى في سورة القصص آية 55: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).
- وهناك تجاهل للسلوك، فعن أَنسٍ قَالَ: "كُنتُ أَمْشِي مَعَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانيٌّ غلِيظُ الحَاشِيةِ، فأَدْركَهُ أَعْرَابيٌّ، فَجَبَذهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَديدَةً، فَنظرتُ إِلَى صَفْحَةِ عاتِقِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وقَد أَثَّرَتْ بِها حَاشِيةُ الرِّداءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِن مالِ اللَّهِ الَّذِي عِندَكَ، فالتَفَتَ إِلَيْه، فضَحِكَ، ثُمَّ أَمر لَهُ بعَطَاءٍ" (متفقٌ عليه).

وعلينا أن ننتبه!! فليس كل سلوك خاطئ يُفضَّل تجاهله، فمواقف التعدّي على الغير أو انتهاك حقوق الله تستلزم التدخل المباشر "الحكيم"، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم.
فعوّد نفسك على التجاهل الذكي فليس كل أمر يستحق وقوفك والرد!.

وقد قيل في التغافل والتجاهل
- قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: (تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل).
- قال الحسن البصري - رحمه الله -: (ما زال التغافل من فعل الكرام).
- يقول ابن الجوزي: (ما يزال التغافل عن الزلات من أرقى شيم الكرام، فإنّ الناس مجبولون على الزلات والأخطاء، فإن اهتم المرء بكل زلة وخطيئة تعب وأتعب، والعاقل الذكي من لا يدقّق في كل صغيرة وكبيرة، مع أهله، أحبابه، وأصحابه، وجيرانه، وزملائه، كي تحلو مجالسته، وتصفو عشرته).
- وقد قال جبران خليل جبران: إذا تعلمت التجاهل فقد اجتزت نصف مشاكل الحياة.
- وقال مالكوم إكس: إذا لم تتقن التجاهل ستخسر الكثير أولهم عافيتك.
- وقال جورج ماكدونالد: التجاهل وقت الغضب ذكاء، والتجاهل وقت المصاعب إصرار، والتجاهل وقت النصيحة البناءة غرور، فانتبه متى تتجاهل.

وأخيرا: أمامك طريقان: إما أن تنفعل وتغضب وتتوتر، وترهق أعصابك وتفكيرك، وإما أن تتجاهل ذلك الأمر الذي سبب انزعاجك وتهدأ وتبتسم.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة