الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كل شيء بقدر حتى العَجْز والكَيْس

كل شيء بقدر حتى العَجْز والكَيْس

كل شيء بقدر حتى العَجْز والكَيْس

يتفاوت الناس في خِلقتهم، وطبائعهم، وقدراتهم، وإدراكاتهم، وقوة أبدانهم عقولهم، تلك هي حكمة الله التي اقتضت أن يخلق الخلق على هذا التفاوت والتمايز، فلم يجعل الناس كلهم على قدرات متساوية لا في أبدانهم، ولا في عقولهم، فهم درجات في ذلك كله، ليحصل بمثل هذا حاجةُ الناس لبعضهم، ومن ثم يكمل بعضهم بعضا، ويبلوهم الله بعضهم ببعض، وغيرها من أسرار الخلق، وبالغ الحكمة.

ومما يدل على هذا المعنى الحديث الآتي، مع وجازة ألفاظه، لكنه واسع المعنى، عظيم الفائدة، وهو ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ».

قال ابن حجر: معنى الكَيْس: بفتح الكاف ضد العجز، ومعناه الحذق في الأمور ويتناول أمور الدنيا والآخرة، ومعناه أن كل شيء لا يقع في الوجود إلا وقد سبق به علم الله ومشيئته. أ.هـ

ومن معاني الكياسة: كمال العقل، وتمام معرفة الرجل للأمور، وتمييز ما فيه النفع مما فيه الضر، فمن كان كذلك وخلقه تعالى على هذه الصفة، فليكن على يقين بأن ذلك ليس بقوته وقدرته؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله.

والعجز عام في أنواع الضعف، فيدخل فيه من كان عاجزا وضعيفا في بدنه، أو رأيه وتمييزه، فإن ذلك بتقدير الله وخلق الله تعالى إياه على هذه الصفة، وفي هذا الحديث توجيهات نبوية قيمة، يحسن الوقوف عليها.

فيشتمل الحديث على توجيهين:

التوجيه الأول: إيماني

يتعلق باعتقاد المسلم بإحاطة قدَر الله لكل شيء، وأن كل ما وقع، ويقع، وسيقع، كله بقدر الله المتضمن لعلمه وكمال حكمته، علمها من علمها، وجهلها كثير من الخلق.

وهذه القضية الإيمانية بلغت من الأهمية أن عُدَّت ركنا من أركان الإيمان التي لا يصح الإيمان إلا بها، ودلائل الكتاب والسنة متوافرة على أساسية هذه القضية في الإيمان، ولذلك كان من أنكر القدر، وزعم أن الله لم يقدر الأقدار، أو لم تكن في سابق علمه قبل أن تقع، أو لم تكتب ذلك في الأزل، فقد كفر بإيمانه؛ إذ القدر نظام التوحيد، ورحى الإيمان.

التوجيه الثاني: مسلكي

يتعلق بمنهجية المسلم في التعامل بناء على هذا الإيمان الراسخ بالقضية العقدية.

وقد لخص هذا كله الوزير ابن هبيرة تلخيصا قيما، فقد أشار للقضية الإيمانية في الحديث فقال في الإفصاح: "في هذا الحديث إثبات القَدَر، وأنه ليس للإنسان من الحيلة أن يدفع ما قُدِّرَ عليه حتى العجز والكَيْس؛ فمن قُدِّر له أن يكون كَيْسًا كان، ومن قُدِّر له أن يكون عاجزًا كان".

ثم يقرر ابن هبيرة الجانب العملي المسلكي في الحديث بجانبين:

الجانب الأول: فيما يتعلق بالتعامل مع الغير بناء على هذا الحديث النبوي حيث يقول: "فهذا ينبغي أن يعمل به الرجلُ المسلم في أنه لا يلوم عاجزًا على عجزه، ولا يحسد ذا كيس على كيسه".

الجانب الثاني: فيما يتعلق التعامل مع النفس وفق ما يشير إليه هذا الحديث فيقول: "إلا أنه في نفسه أن كان ممن قد بلي بالعجز فلا يسْتَطْرِح إلى أنه قد قُدِّر ذلك فيه فيترك الحيلة؛ بل ينبغي له أن يحرص على الانتقال إلى الكيس".

ومن التوجيهات العملية التي أرشد إليها الحديث بإشارته: أن من قُدِّر الله له أن كمال العقل، وحسن التدبير، وسداد الرأي، فليدرك بالغ نعمة الله عليه، فيحمد الله وينسب الأمر لله الذي وهبه بفضله من غير سابق استحقاق، وإلى هذا أشار ابن هبيرة بقوله: "وإن كان قد قدر له الكيس فيحمد الله عز وجل".

ومن تمام شكر هذه النعمة: أن يستخدم عقله وذكاءه، وحسن فهمه فيما يرضي الله عنه، فيستغل ذكاءه في اكتساب العلوم النافعة، والاكتشافات التي تعود بالصالح العام على مجتمعه وأمته، وليأخذ بيد من كتب عليه العجز، فيقوي عزائمهم، ويحرك هممهم، ويستثير كوامنهم، ويرشدهم إلى طرق الكسب، وسبل المنافع الدنيوية والأخروية.

ثم ختم ابن هبيرة تعليقه على هذا الحديث بتنبيه لطيف بالاحتراس عن وهم بعض الناس الناشئ عن الاستدلال السلبي الذي قد يتطرق للحديث، بحيث يساء فهمه، ومن ثم يساء تطبيقه، فيؤثر سلبا على سلوك المسلم، وتعاطيه مع الأسباب بحجة التسليم للقدر، فيقول:

"لأن النفوس قد تحتج بهذا ومثله، ويأبى بذكر الإيمان بالقدر من عجزها، ويبين ذلك عليها بأنها لا تكون مُسْتَطْرِحَة في الكسب والتطلع إلى الشهوات وغيرها محيلة بها على القدر".

وهذا الحديث وإن كان يدل على سبق الكتاب بما يعمله الناس، فالعاجز قد كتب عجزه، والكيِّس قد كتبت كِيَاستُه، لكنه لا يدعو إلى ترك العمل، ولا يجوز أن يفهمه أحد على هذا الوجه، بل هو كسائر أدلة القدر التي تقرر هذا المبدأ بسبق علم الله وكتابته لما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فلا يجوز أن يُعارَضَ بها بقية الأدلة، بل الشأن كما قال -صلى الله عليه وسلم- لما سئل: إن كان قد فرغ من مصير الخلق ففيمَ العمل؟

فكان التوجيه بالأمر بالعمل والسعي، والإقبال على الأعمال، فمن ذا الذي يعلم ما سبق له في علم الله، فالعبد مأمور بالعمل، « اعملوا فكل مُيَسَّرً لما خُلِق له» رواه مسلم عن جابر بن عبد الله، فالإيمان بالقدر باعث على الجد والاجتهاد، لا على الخلود وانتظار المقدور، فالقدر يدفع بقدر مثله.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة