الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التدليس في الحديث 1-2

التدليس في الحديث 1-2

التدليس في الحديث 1-2

يرتبط التدليس ارتباطا وثيقا بأهم وأدق علوم الحديث، وهي: علم الرجال، وعلم العلل، وعلم المصطلح، فارتباطه بعلم الرجال لكون التدليس قد يؤثر في منزلة المحدّث المدلّس، وارتباطه بعلم العلل لكونه سبب خفي غامض في أغلب الأحيان، وارتباطه بعلم المصطلح لكون الحديث المدلّس يتأثر بما حصل من تدليس في إسناده، وقد يكون سببا مانعا لصحته وقبوله.

بداية التدليس

بدأ التدليس في الأسانيد قديما، بدءا من عصر التابعين، قال يعقوب بن سفيان: "أبو إسحاق رجل من التابعين، وهو ممن يعتمد عليه الناس في الحديث هو والأعمش، إلا أنهما وسفيان يدلسون، والتدليس من قديم"، وهؤلاء الثلاثة من أئمة الأمة: أبو إسحاق السبيعي، وسليمان بن مهران الأعمش، وسفيان بن سعيد الثوري، ومع ذلك كانوا يفعلونه، بل ربما سوغ صنيعهم ذلك أن يترخص فيه بعض من بعدهم.

كما قال عبيد الله بن عمر القواريري: "كتب وكيع إلى هُشيم: بلغني أنك تفسد أحاديثك بهذا الذي تدلسها. فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، كان أستاذاك يفعلانه: الأعمش وسفيان".

وكان التدليس في الكوفيين كثيراً، مع ما كان فيهم من حفظ السنن والعلم بها، قال عبد الرحمن بن مهدي: "حديث أهل الكوفة مدخول".

المقصود بالتدليس في الحديث

التدليس لغة: مشتق من الدّلَس وهو الظلمة والستر، فاختلاط الظلام بالنور دَلَس، وكتمان وستر عيب السلعة في البيع تدليس، ويطلق اصطلاحا على: رواية الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه، أو: أن يروي المحدث عن شيخ سمع منه حديثاً، فيغير اسمه أو كنيته أو نسبه أو حاله المشهور من أمره لئلا يُعرف، وله أنواع متعددة نأتي على ذكرها لاحقا.

وأما وجه التسمية به: فهو اشتراكهما في الخفاء.

وصورته المشهورة: أن لا يسمي الراوي شيخه الذي سمعه منه، بل يروي عمن فوقه بلفظ يوهم السماع ولا يقطع كذبا، كأن يقول: عن فلان أو قال فلان.

ذم التدليس

قال الخطيب البغدادي: "والتدليس يشتمل على ثلاثة أحوال تقتضي ذم المدلس وتوهينه: أحدها: إيهامه السماع ممن لم يسمع منه، وذلك مقارب الإخبار بالسماع ممن لم يسمع منه.
والثانية: عدوله عن الكشف إلى الاحتمال، وذلك خلاف موجب الورع والأمانة.
والثالثة: أن المدلس إنما لم يبين من بينه وبين من روى عنه؛ لعلمه بأنه لو ذكره لم يكن مرضيا مقبولاً عند أهل النقل؛ فلذلك عدل عن ذكره.
وفيه: أنه لا يذكر من بينه وبين من دلس عنه؛ طلباً لتوهيم علو الإسناد، والأنفة من الرواية عمن حدثه، وذلك خلاف موجب العدالة ومقتضى الديانة من التواضع في طلب العلم، وترك الحمية في الإخبار بأخذ العلم عمن أخذه".
وقد رُوي عن وكيع أنه قال: "لا يحل تدليس الثوب فكيف بتدليس الحديث"، وبالغ الإمام شعبة في ذمه.

الباعث على التدليس

الأسباب الحاملة على التدليس كثيرة، منها ما هو مقبول، ومنها ما هو محرم غير مقبول، فالفاسد منها وغير المقبول مثل: إخفاء السماع من الشيخ لصغر سنه أو عدم شهرته وجاهه عند الناس، والمقبول منها: ما وقع من بعض الأكابر من جهة وثوقهم بصحة الحديث واستغناء بشهرة الحال، قال الشمني مدافعا عن تدليس الأكابر: "يحتمل أن يكون قد سمع الحديث من جماعة من الثقات وعن ذلك الرجل، فاستغنى بذكره عن ذكر أحدهم أو ذِكر جميعهم لتحققه بصحة الحديث فيه كما يفعل المرسِل".

مراتب المدلسين

لم يكن الرواة الذين وُصِفوا بالتدليس على درجة واحدة، فهم على مراتب: منهم المكثر، ومنهم المقل، ومنهم من يروي عن الضعفاء، ومنهم من احتمل الأئمة تدليسهم لقرائن لاحت لهم، وقد جُمعت أسماء المدلسين قديماً، حيث جمعها الإمام علي بن المديني وتلاه الحسين بن علي الكرابيسي ثم الإمام النسائي ثم الدارقطني، ومن بعدهم ألّف الخطيب في المدلسين، ثم الحافظ ابن عساكر، ولكنهم لم يقسّموا المدلسين إلى مراتب، بل سردوا الأسماء متتالية.

ثم جاء الحافظ العلائي فقسّم المدلسين وبين أنهم على مراتب، حيث قال في كتابه (جامع التحصيل في أحكام المراسيل): "ثم ليعلم بعد ذلك أن هؤلاء كلهم ليسوا على حدٍ واحد بحيث أنه يتوقف في كل ما قال فيه واحد منهم "عن"، ولم يصرح بالسماع بل هم على طبقات:

أولها: من لم يوصف بذلك إلا نادراً جداً بحيث أنه لا ينبغي أن يعد منهم، مثل: يحيى بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة.
ثانيها: من احتمل الأئمة تدليسه، وخَرَّجوا له في الصحيح وإن لم يصرح بالسماع، وذلك إما لإمامته أو لقلة تدليسه في جنب ما روى؛ لأنه لا يدلس إلا عن ثقة، مثل: الزهري والأعمش.
ثالثها: من توقف فيهم جماعة فلم يحتجوا بهم إلا بما صرَّحوا فيه بالسماع وقبلهم آخرون مطلقاً، مثل: أبي إسحاق السبيعي وأبي الزبير المكي.
رابعها: من اتفقوا على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع؛ لغلبة تدليسهم؛ وكثرته عن الضعفاء والمجهولين، مثل: محمد بن إسحاق وبقية بن الوليد.
خامسها: من قد ضُعِّف بأمر آخر غير التدليس فرد حديثهم به لا وجه له، إذ لو صرح بالتحديث لم يكن محتجاً به، مثل: أبي سعيد البقال".

ثم جاء الحافظ ابن حجر فقسّم المدلسين من رجال الصحيحين أو أحدهما إلى ثلاث طبقات حيث قال: "فهذه أسماء من ذكر بالتدليس من رجال الصحيحين ممن أخرجا أو أحدهما له أصلا أو استشهادا أو تعليقا على مراتبهم في ذلك، وهي:

الأولى: لم يوصف بذلك إلا نادرا، وغالب رواياتهم مصرحة بالسماع.
الثانية: من أكثر الأئمة من إخراج حديثه إما لإمامته، أو لكونه قليل التدليس في جنب ما روى من الحديث الكثير، أو أنه كان لا يُدَلِّس إلا عن ثقة.
الثالثة: من أكثروا التدليس، وعرفوا به".

وفائدة هذه الطبقات أن يُعلم: أن أهل الطبقة الأولى والثانية تقبل روايتهم ولا يفتّش عن سماعاتهم؛ لأنهم لا يوصفون بالتدليس إلا نادراً، أو لكونهم لا يدلسون إلا عن ثقات، وكذا فإن رواية المحققين عن المدلسين من أمثال الإمام شُعبة بن الحجاج تعد في حكم المتصل.

وأما أهل الطبقة الثالثة ممن ثبت عنهم التدليس وأكثروا منه فإنه لا يقبل حديثهم إلا إذا صرحوا بالسماع أو التحديث.

وسيكون لنا وقفة مع أنواع التدليس وأقسامه ومذاهب العلماء في الخبر المدلس في موضوع لاحق بإذن الله تعالى.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة