الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التدليس في الحديث 2-2

التدليس في الحديث 2-2

التدليس في الحديث 2-2

بعد أن ذكرنا تاريخ التدليس وتعريفه والباعث عليه ومراتب المدلسين، نأتي إلى بيان أنواع التدليس وأقسامه، حيث ذكر الأئمة المحدثون أنواعا وأقساما متعددة للتدليس.

فقد قسّم الإمام الحاكم النيسابوري - في "معرفة علوم الحديث" - التدليس إلى ستة أقسام، ثم جاء الحافظ العراقي فاختصر تقسيمات الحاكم إلى ثلاثة أقسام، وبعدهما جاء الحافظ البلقيني فقسمه إلى قسمين فقط، هما: تدليس الإسناد وتدليس الشيوخ.

وقد وضّح الحافظ البلقيني سبب اختصاره للأقسام فقال: "الأقسام الستة التي ذكرها الحاكم داخلة تحت القسمين السابقين، فالقسم الأول والثاني والثالث والخامس والسادس داخلة تحت القسم الأول، والرابع عين القسم الثاني - أي تدليس الشيوخ -، وما عده العراقي قسماً ثالثاً - وهو تدليس التسوية - داخل تحت القسم الأول وهو تدليس الإسناد".

وعند التدقيق نجد أن هناك نوعان للتدليس قد يندرج تحتهما أقسام: النوع الأول يتعلق بالانقطاع في الإسناد، وهو تدليس الوصل، وأما النوع الثاني فليس انقطاعاً، وإنما صلته بعدالة الراوي المدلس وضبطه خاصة، وهو تدليس الأسماء (الشيوخ).

أنواع التدليس

النوع الأول: تدليس الوصل، ويتعلق بالانقطاع في الإسناد، وهو قسمان:

القسم الأول: تدليس الإسناد، وهو أن يروي الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه؛ بصيغة موهمة للاتصال، يقول: "عن فلان" أو "قال فلان" أو شبه ذلك.

ومثاله ما ورد عن علي بن المديني قال: قلت ليحيى - يعني القطان - : حديث حماد بن زيد عن أبي عبد الله الشقري، عن إبراهيم، في العبد يتسرّى؟ فقال: "بينه وبين إبراهيم ثلاثة" أي لم يسمعه من إبراهيم، وقد أتى بصيغة الأداء غير صريحة في السماع وهي "عن"، فهذا تدليس الإسناد.

ويمكن اعتبار الإسناد الذي يقع فيه التدليس إسناداً مرسلاً في ذلك المحل، لكونه صورة خاصة من الإرسال أو الانقطاع، فارقت معنى الإرسال والانقطاع المعروفين فيما يقع فيها من إيهام السماع، فذلك بينٌ يسهل إدراكه، بخلاف ما يظن أنه مسموع وليس كذلك.

وقد يلتبس على البعض الفرق بين التدليس والإرسال الخفي، لأن بينهما عموم وخصوص، فكل تدليس إرسال، وليس كل إرسال تدليساً، ولذا فإن تعريف الإرسال الخفي هو: رواية الراوي عمن أدركه بصيغة العنعنة، وثبت أنه لم يسمع منه البتة، أو سمع منه شيئاً معيناً ولم يسمع منه غيره.

ويحصل العلم بوقوع الإرسال الخفي بتنصيص النقاد عليه أو باستقراء وسبر طرق الحديث.

القسم الثاني: تدليس التسوية، وهو أن يُسقط الراوي ممن فوق شيخه في الإسناد، كراوٍ مجروح أو مجهول أو صغير السن، يُحسّن الحديث بذلك ويجوّده.

مثال الحديث يعل بتدليس التسوية: قال ابن أبي حاتم الرازي "سمعت أبي روى عن هشام بن خالد الأزرق، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصيب بمصيبة من سقم أو ذهاب مال فاحتسب ولم يشك إلى الناس كان حقا على الله أن يغفر له)، قال أبي: هذا حديث موضوع لا أصل له، وكان بقية يدلس، فظنوا هؤلاء أنه يقول في كل حديث: "حدثنا" ولا يفتقدون الخبر منه، يعني يغرهم قوله: "حدثنا فلان"، وهو لا يسقط لهم واسطة بينه وبين شيخه، إنما يسقط من المجروحين من بعد شيخه.

وهو شر صور التدليس، سئل يحيى بن معين عن الرجل يلقي الرجل الضعيف من بين ثقتين، يوصل الحديث ثقة عن ثقة، ويقول: أُنقص من الحديث وأصِلُ ثقة عن ثقة، يحسن الحديث بذلك؟ فقال: "لا يفعل، لعل الحديث عن كذاب ليس بشيء، فإذا هو قد حسنه وثبته، ولكن يحدث به كما روي".

وسمي هذا النوع من التدليس "تسوية"؛ لأن فاعله يسقط المجروح من الإسناد من بعد شيخه ليستوي حال رجاله في الثقة، وكان جماعة من الرواة يُعرفون بفعل ذلك، منهم: سليمان بن مهران الأعمش وأبي إسحاق السبيعي، قال عثمان الدارمي: "كان الأعمش ربما فعل ذلك".

النوع الثاني: تدليس الأسماء، ويقال: تدليس الشيوخ، ويتعلق بعدالة الراوي المدلس وضبطه.

وهو أن يروي المحدث عن شيخ سمع منه حديثاً، فغير اسمه، أو كنيته، أو نسبه، أو حاله المشهور من أمره؛ لئلا يعرف، وذلك يُفعل لأسباب منها:

- كون الشيخ مجروحاً أو كون المدلس قد شورك في الرواية عن ذلك الشيخ من قبل من هم دونه في السن أو العلم أو غير ذلك.

- كون ذلك الشيخ أصغر سنا من الراوي عنه كما وقع لسفيان بن عيينة، فيما أخبر به أحمد بن حنبل قال: حدثنا سفيان بن عيينة يوما عن زيد بن أسلم، عن علي بن الحسين، قال: "يجزئ الجنب أن ينغمس في الماء"، قلنا: من دون زيد بن أسلم؟ قال: معمر، قلنا: من دون معمر؟ قال: ذاك الصنعاني عبد الرزاق.

- كثرة ما عند ذلك الراوي عن الشيخ، فيغير في اسمه دفعاً للتكرار.

وليعلم أن تدليس الأسماء يُصيُّر إلى الجهالة بها، والجهالة سبب لرد الحديث أصلاً، فإذا لم تتبين حقيقة ذلك الراوي فهو مجهول، لكن تكمن الخطورة في إيهام هذا التدليس أن الراوي ثقة إذا التبس باسم أو كنية شيخ له من الثقات، لذا يوجب تيقظاً زائداً، وكذلك ينبغي الاعتناء بمعرفة أسماء من كان يفعل هذا من الشيوخ، فإنه يورد ريبة في كل شيخ لأحدهم غير معروف.

مذاهب العلماء في خبر المدلس

ذهب بعض السلف مذهباً شديداً في التدليس، حتى عده بعضهم بمنزلة الكذب، مع أن الواقع العلمي أننا رأيناهم جميعاً لا يجعلون التدليس جرحاً يرد به حديث الراوي مطلقاً، وإنما يرد ما عرف أنه دلس فيه، أو ما ظن أنه دلس فيه بمجرد عنعنته على قول آخرين. فلم يكن وقوع التدليس من الراوي قادحاً عندهم في عدالته، مع ما جاء عن طائفة من عيبه وإنكاره.

والمذاهب المعتبرة لأهل العلم في حديث المدلس الذي لا يُذكر فيه السماع تحصر في أربعة، أرجحها مذهب الشيخين (البخاري ومسلم) وغيرهما من كبار أئمة الحديث، حيث ذهبوا إلى ردّ رواية من شاع عنه التدليس واشتهر به وكثر منه، حتى يبين سماعه صريحاً، دون من ذكر به ولم يعرف له كبير أثر على صحة حديثه وروايته في الجملة، فهذا يقبل حديثه وإن عنعن فيه - من أجل ضعف مظنة التدليس - ما لم يثبت أنه دلس فيه، خصوصاً وأن حديث الراوي معروض في العادة على المعروف من حديث الثقات المتقنين، فلدينا بهذا الاعتبار ميزان لكشف أثر تدليسه إن وجد، والله أعلم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة