الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الجامعة القرآنية النبوية

الجامعة القرآنية النبوية

الجامعة القرآنية النبوية

محور الرسالة التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو تبليغ القرآن الكريم كما قال تعالى: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} (الأنعام:19)، وهذا التبليغ يجب أن يكون مبيناً {فـإنما عليك البلاغ المبين} (النحل:82) لذا بذل النبي صلى الله عليه وسلم غاية المجهود في سبيل الوصول إلى التبليغ والبيان للقرآن الكريم، وابتكر الأساليب الإدارية اللائقة بذلك، واستشهد الناس على قيامه بالبلاغ المبين، فقال في غير ما موطن: (هل بلغت)، ولشعور الصحابة رضي الله عنهم بأنه قد بلغ القرآن الكريم على أحسن الوجوه وأشقها عليه -كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه-: (اللهم نعم وحرضت وجهدت ونصحت) رواه النسائي في "السنن الكبرى"، والطبراني في "المعجم الكبير"، وصححه الألباني، بل عانى صلى الله عليه وسلم في سبيل ذلك حتى صلى في آخر حياته النافلة قاعداً، وتصف سيدتنا عائشة رضي الله عنها سبب صلاته قاعداً عندما سئلت: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو قاعد؟ قالت: (نعم، بعد ما حَطَمَهُ الناس) رواه مسلم، ومعناه كما يقول النووي: "كأنه لما حمله من أمورهم وأثقالهم والاعتناء بمصالحهم صيروه شيخاً محطوماً، و(الحطم) كسر الشيء اليابس". وبهذا المجهود العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ القرآن الكريم يأوي كل مسلمٍ اليوم إلى ظلالٍ وارفةٍ عيشاً مع كتاب الله تعالى، ابتغاء أن ينشر الله للإنسان أثناء قراءة القرآن من رحمته، ويُهيئ له من أمره مرفقاً، فهو يدلف إلى جنان القرآن في عصر أحزاننا المستديمة على حد قول القائل:

دخلـتُ وقلبــيَ قد طـار مـني ولــكنه عـــاد لمَّـا دخـــلتُ

دخلت الرحاب، وأسلمت نفسي إلى تلف الوجد حتى سلمتُ

وكان المقـامُ العظيـــمُ العظيـمُ عــليـه يخيــم نورٌ وصَـمْتُ

فطَـوَّفَ بي من جلال القُـرَانِ ذهولٌ فهمتُ، وهِمْتُ، وهِمْتُ

ملامح الجامعة القرآنية في العهد النبوي

يرى الناظر في أساليبه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الإبداعية لتبليغ القرآن الكريم ملامح مشروع عظيم يمكن وصفه على سبيل التقريب بأنه جامعة قرآنية نبوية مستقلة لتعليم القرآن الكريم، ومن أبرز ملامحها:

أنه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم كان رئيس هذه الجامعة كما كان المشرف العام على الشؤون العلمية والإجرائية فيها، وهو أيضاً سيد المعلمين وكبيرهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم حتى قال عن نفسه: (ولكن بعثني-أي الله- معلماً ميسراً) رواه مسلم.

كبار الأساتذة المعلمين

وقد استطاع صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أن يوجد هيئة إقراء عليا في هذه الجامعة يشكلون كبار الأساتذة الذين يُتَلقى عنهم، ومن أبرزهم:

الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم، وقد نعى الإمام أبو القاسم الهذلي في كتابه "الكامل في القراءات الخمسين" على من ترك عدَّ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في جملة الحفاظ المقرئين، أما عثمان وعلي رضي الله عنهما فأمرهما أشهر من أن يذكر، ومن أبرز أئمة الإقراء في هيئة الإقراء التي أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على تعليمها بنفسه أبي بن كعب رضي الله عنه الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (وأقرؤهم أُبَيّ) رواه الترمذي.

وابن مسعود رضي الله عنه الذي قال فيه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (من أحب أن يقرأ القرآن غضًّا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) رواه ابن ماجه. وهما رضي الله عنهما مع اثنين آخرين من الصحابة يشكلون الأربعة الكبار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب) رواه البخاري.

ومن كبار القراء في هذه الجامعة النبوية عبادة بن الصامت الذي كان يسند إليه صلى الله عليه وسلم إقراء حديثي الإسلام إن انشغل عنهم، وعُبادة هو القائل: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُشغل، فإذا قدم الرجل مهاجراً على رسول الله دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن، فدفع إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا...) رواه أحمد.

ومنهم خباب بن الأرت وأمر تعليمه للقرآن الكريم وإسلام عمر رضي الله عنه على يديه مشهور.

ومنهم أبو هريرة فقد قال أبو سعيد رضي الله عنه وكان قرأ القرآن على أبي هريرة قال: (ما قرأت القرآن إلا على أبي هريرة هو أقرأني). رواه الطبري.

ومن أبرز من شكل الطبقة الثانية من أساتذة الإقراء في هذه الجامعة الشريفة السبعين، القراء الذين عرفوا بأصحاب بئر معونة.

وقد مُنِحَ المبرزون من خريجي هذه الجامعة الشريفة الألقاب الفخمة المنيفة كلقب: صاحب القرآن، وحامل القرآن، وأهل القرآن...وهي شهادات عظيمة تعد مصدر فخر لهؤلاء الخريجين في الدنيا والآخرة.

وكان لهذه الجامعة نظمها الإدارية، ولوائحها العملية التفصيلية، وأمكنتها التعليمية كما يبين ذلك هذا البحث.

وقد كثر حملة القرآن من طلاب هذه الجامعة حتى صار الحفاظ من الخوارج -وهم فرقة ضالة شاذة عن جمهور المسلمين- ثمانية آلاف على الأقل، فكيف بحملة القرآن في جمهور المسلمين، وكمؤشر على الأمر فإنه اشتهر أن أحد نبغاء الأساتذة في هذه الجامعة الشريفة وهو أبو الدرداء رضي الله عنه أسس فرعاً مستقلاً للجامعة القرآنية في الشام، وكان يشرف على تعليم ما يقرب من ألف وستمائة طالب قرآن بطريقة إدارية فذة، ففي "تاريخ دمشق" لابن عساكر عن مسلم بن مشكم قال: قال لي أبو الدرداء: اعدد من يقرأ عندنا -يعني في مجلسنا هذ-ا قال: فعددت ألفاً وستمائة ونيفاً، فكانوا يقرؤون ويتسابقون عشرة عشرة، لكل عشرة منهم مقرئ، وكان أبو الدرداء قائماً يستفتونه في حروف القرآن -يعني المقرئين- فإذا أحكم الرجل من العشرة القراءة، تحول إلى أبي الدرداء، وكان أبو الدرداء يبتدئ في كل غداة إذا انفتل من الصلاة، فيقرأ جزءا من القرآن وأصحابه محدقون به يسمعون ألفاظه، فإذا فرغ من قراءته جلس كل رجل منهم في موضعه، وأخذ على العشرة الذين أضيفوا إليه، وكان ابن عامر مقدَّماً فيهم.

على هذا فإن الجامعة القرآنية النبوية تأسست بمشرق الوحي، واستمر توسعها حتى أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في أكبر عيدٍ للمسلمين قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة:3)، ورأينا المدى العظيم الذي بلَّغ به سيد ولد آدم عليه السلام القرآن، وحرض وجهد -كما قال عمر رضي الله عنه-، كما عاينا الركائز والنظم الإدارية التي اعتمدها لإنجاح الرسالة، وتبليغها لأهل الأرض إلى يوم القيامة، وظهرت لنا في سيرته المنهجية النبوية في تعليم القرآن الكريم محضةً، لم تشبها أكدار الزمان، وتطورات الأحداث والحدثان...وعشنا معه صلى الله عليه وسلم، وهو يُعَلِّمُ القرآن على هيئةٍ فردية، وفي صورةٍ جماعية...في قاعات المحاضرات الخاصة والعامة (الحلقات القرآنية)، وفي المراكز الرئيسة للإقراء، وخارج نطاقها...كما رأينا ضخامة غرس المخرجات التعليمية التي زرعتها يده، وسقتها تربيته:

وحدثتني يا سعد عنهم فزدتني حنيناً فزدني من حديثك يا سعدُ

هواههم هوىً لم يعرف القلب غيره فليس له قبلٌ وليس له بعدُ

معالم رئيسة للمحافظة على القرآن الكريم عند حملته أسسها التعليم النبوي

أولاً: تكرار المحفوظ: ليرسخ فيه، فقد قال الزمخشري في معنى قوله: {فاتبع قرآنه} "فأمر أن يستنصت له، ملقياً إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي إليه، ثم يقضيه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه"، وقال الآلوسي: "اتبع قرآنه بالدرس على معنى كرره حتى يرسخ في ذهنك"، وأورد ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "كان لا يفتر من القرآن مخافة أن ينساه، فقال الله عز وجل: {لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه} (القيامة:16-17) أن نجمعه لك. {وقرآنه} أن نقرئك فلا تنسى"؛ وهذا دالة على تكرار المحفوظ، والمعارضة والمدارسة نموذج للصورة التطبيقية لهذا التكرار.

ثانياً: تركيز المراجعة في قيام الليل: فقيام الليل له عدة تعلقات من حيث لفظ القرآن الكريم:

أ- هو محل استمداد عون الله، ولذا أُمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم بقيام الليل؛ ليكون السبيل الذي يستعين به على تلقي هذا القول الثقيل.

ب- جعل قيام الليل محلاً للصورة التطبيقية في مراجعة القرآن الكريم؛ تثبيتاً للألفاظ، وتبييناً للأصوات، ففي قيام الليل تكون "مواطأة القرآن أشد موافقة لسمعه وبصره وقلبه"، قال ابن حجر: وله بالقرآن تعلقان: عامٌ: فهو {أشد وطئا} أي: "أثبت في الخير"، وخاصٌ فهو{وأقوم قيلا} أي:"أبلغ في الحفظ". وكونه أبلغ في الحفظ: مجمل فصله الشوكاني بقوله: "{وأقوم قيلا} أي أشد مقالاً، وأثبت قراءةً لحضور القلب فيها، وهدوء الأصوات".

ولا يتوقف ذلك عند مجرد الحفظ، بل يتعداه إلى تبيين اللفظ فقد نقل الشوكاني عن قتادة ومجاهد: "أي أصوب للقراءة، وأثبت للقول؛ لأنه زمان التفهم، وقال الكلبي: أبين قولاً بالقرآن".

والمقصود أن قيام الليل هو محلٌ لتكون مواطأة القرآن بين القلب واللسان أشد، كما أنه أجمع للتلاوة، أي: أرسخ للحفظ، ولهذا قال الله عز وجل: {هي أشد وطئا وأقوم قيلا} (المزمل:6)، أي: أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها.

وعلاقة قوله عز وجل: {إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا} بما قبلها {ورتل القرآن ترتيلا * إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} (المزمل:4-5) أنها تعليل لتخصيص زمن الليل بالقيام فيه، والمراد: إن في قيام الليل تزكية وتصفية لسرِك، وارتقاء بك إلى المراقي الملكية، فالمعنى: إن صلاة الليل أعود على تذكر القرآن، والسلامة من نسيان بعض الآيات، وأعون على المزيد من التدبر. قال ابن عباس رضي الله عنها: "أدنى من أن يفقهوا القرآن"، وقال قتادة: "أحفظ للقرآن"، وقال ابن زيد: "أقوم قراءة لفراغه من الدنيا". وقوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلا} متعلق بقيام الليل أي: رتل قراءتك في القيام، ويجوز أن تكون أمراً مستقلاً متعلقاً بكيفية قراءة القرآن، جرى ذكره بمناسبة قيام الليل، وهذا أولى؛ لأن الصلاة تدخل في ذلك. وقد اشتهر حديث حذيفة رضي الله عنه في قيامه صلى الله عليه وسلم بسورة البقرة وآل عمران والنساء -كما "صحيح مسلم"- أنموذجاً لورده صلى الله عليه وسلم في المراجعة في قيام الليل.

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل ورداً للمراجعة اليومية؛ كوقت نموذجي لها (ولا يعني هذا نفي الغايات الشرعية الأخرى لقيام الليل)، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ما يُلْقَى إليه في الليل أثناء قيامه في الصلاة.

ولمراجعة القرآن في صلاة الليل أثرٌ في تثبيته، بل ذلك أحد أهم قواعد حفظه.

وفي موضوع تلقي النبي صلى الله عليه وسلم يوجد دليلان: عامٌ وخاصٌ في مراجعته صلى الله عليه وسلم في الليل:

فأما الدليل العام فقد قال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإن لم يقم به نسيه) رواه مسلم. ومن أحق منه صلى الله عليه وسلم بوصف صاحب القرآن؟

وأما الدليل الخاص: أنَّ قيامُه في صلاته كان بما يُلْقَى إليه، فما حدثت به عائشة رضي الله تعالى عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة من الليالي، فقال: (يا عائشة! ذريني أتعبد لربي) قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله! تبكي، وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد نزلت علي الليلة آيات، ويل لمن قرأها، ولم يتفكر فيها: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار} (آل عمران:190)، رواه ابن حبان في "صحيحه"، وصححه الألباني. ولا يعترض على النصِّ بأنه غير صريحٍ في الدلالة على المراد؛ لأن قرائن الحال، واقتران الوصف بالحكم في الحديث مقتضيان المطلوبَ من إيراده، وهو مراجعته لما أُنزِل عليه، والذي أُنزل عليه هنا الآيات العشر من سورة آل عمران.

بل كان يؤكد على المراجعة ببيان وسائل التدارك عند الفوات، فعن عبد الرحمن ابن عبد القاري، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن حزبه، أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل) رواه مسلم، وقد شمل قوله: (حزبه) الصلاة والقرآن، وهو إلى القرآن أقرب؛ إذ مصطلح (الحزب) على لسان النبي صلى الله عليه وسلم يختص بالقرآن، ففي "مسند" الإمام أحمد عن أوس بن حذيفة أن رسول الله قال: (طرأ علي حزب من القرآن، فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه قال: (فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه حين أصبحنا، قلنا: كيف تُحَزِبون القرآن؟ قالوا: نُحَزِبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل من قاف حتى يختم). الحديث حَّسنه العراقي.

كما جعل صلى الله عليه وسلم شدة الحض على قيام الليل مع الاهتمام فيه بقراءة القرآن مقترناً ببيان الحد الأدنى للقراءة أمراً لازماً؛ لتكون دافعاً إلى الترقي المستمر في زيادة كمية المقروء، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين)رواه ابن حبان، وابن خزيمة، وفي الحديث إشارةٌ برمي الذي لم يقم بعشر آيات بالغفلة، وفي ذلك تهييجٌ نحو القيام، وقراءة هذا المقدار.

بل شُرِعت الوسائل البديلة لقيام الليل لمن فتر أو كسل، متضمنة الارتباط الدائم بالقرآن، والاستفزاز الشعوري بقيام الليل، وإن لم يقمه فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة) رواه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة". وسواءً كان معنى الحديث القراءة المجردة، أو القراءة مع قيام الليل الذي أَشْعَرَ به تعدية الفعل بالباء، فإطلاق القراءة فيه كافٍ في الاستدلال على المطلوب.

على أن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على استذكار القرآن ومراجعته أوضح من أن يُدَلل عليه، ولئن كان قد قال في حرفةٍ عادية: (من علم الرمي ثم تركه، فليس منا) وفي رواية (فقد عصى) رواه مسلم، لهو قائلٌ ثم فاعلٌ أكثر من ذلك في أصل أصول الشريعة الإسلامية.

ثالثاً: التعاهد السنوي: ويستدل على ذلك بمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم على جبريل عليه السلام كل سنة في رمضان، ويأتي تحليل هذا الموقف التعليمي. وهذا هو الأصل الشرعي المنهجي في العرضة الثانية أو الثالثة تأكيداً وتثبيتاً للمحفوظ، وهذا التعاهد غير التعاهد الدائم (المراجعة الدائمة)؛ إذ كلامنا عن اتصال الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمي بجبريل عليه السلام في القرآن الكريم من حيث اللفظ، والمراجعة الدائمة عملٌ ذاتي.

فإن قال قائل: لم يتم عرض الجزء الذي نزل بعد آخر رمضان قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم؟

فالجواب: ليس عدم العلم علماً بالعدم، بل إن القواعد العامة للموضوع هي التي تجعل الباحث يميل إلى الحكم بالنفي أو الإثبات عند عدم وجود النص الصريح في مدار النـزاع، وما عُرِضَ في خصوص موضوعنا يجعل الناظر فيها يميل إلى ترجيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عَرَض القرآن قبل وفاته، وذلك لما رأيتَه من الاهتمام المؤكَّد بذلك من خلال ما سبق، ولقد خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى شهداء أُحد قبل وفاته فصلى عليهم بأمر ربه -كما ثبت عند البخاري- فكيف يكون الأمر له في خصوص القرآن الكريم، على أنه لو لم يتم العرض فلا ضير للتكفل بالحفظ، أو لما قاله ابن حجر: "وكأن الذي نزل في تلك الأيام لما كان قليلاً بالنسبة لما تقدم اغْتُفِرَ أمر معارضته".

وبعد: فهل أتاك نبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يتلقى ألفاظ ألفاظ القرآن الكريم، وجبريل عليه السلام إذ يعلمه لفظ القرآن المجيد؟ فيا حاديَ الشوق أشعل سُرَجَ العزيمة…وأمط عنا -بذاك- في الظلماء ذلَ الهزيمة.ويا رسول الله:

قد كنت بدراً ونوراً يُستضـاء به عليك تَنـزِل من ذي العزة الكتبُ

وكان جبريـل بالآيـات يحضرنا فغـاب عنا، وكلُ الشوق ينسكبُ

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة