الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا

يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا

يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا

في سياق حديث القرآن عن أهل الكتاب وكتمانهم ما جاءهم من الحق جاء قوله تعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم} (آل عمران:188). فما هو سبب نزول هذه الآية؟

يذكر المفسرون سببين رئيسين لنزول هذه الآية:

الأول: ما رواه الشيخان في "صحيحهما" أن مروان بن الحكم قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس، فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يُحمد بما لم يفعل معذباً، لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أُنزلت هذه الآية في أهل الكتاب. ثم تلا ابن عباس: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} (آل عمران:187)، قال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه.

الثاني: ما رواه الشيخان أيضاً عن أبي سعيد الخدري أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا}.

هذان السببان هما المعول عليهما في سبب نزول هذه الآية، وقد ذكر المفسرون أسباباً أُخر غير هذين السببين، لا يعول عليها من جهة السند.

والمفسرون في النظر في هذين السببين على رأيين:

الرأي الأول: يرى أن لا تعارض بين هذين السببين، وأنه يمكن الجمع بينهما؛ وممن سلك هذا المسلك الرازي، والقرطبي، وابن كثير، وابن حجر رحمهم الله جميعاً.

فقد ذكر الرازي عدداً من الأقوال في سبب نزول هذه الآية، قال: "اعلم أن الأولى أن يُحمل على الكل؛ لأن جميع هذه الأمور مشتركة في قدر واحد، وهو أن الإنسان يأتي بالفعل الذي لا ينبغي ويفرح به، ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والإقبال على طاعة الله".

أما القرطبي فقد قال: "الحديث الأول خلاف مقتضى الحديث الثاني. ويحتمل أن يكون نزولها على السببين؛ لاجتماعهما في زمن واحد، فكانت جواباً للفريقين". وأما ابن كثير فقال: "ولا منافاة بين ما ذكره ابن عباس، وما قاله هؤلاء؛ لأن الآية عامة في جميع ما ذكر".

وقال ابن حجر بعد أن ذكر الأقوال التي قيلت في نزول هذه الآية، قال: "ولا مانع أن تكون نزلت في كل ذلك، أو نزلت في أشياء خاصة، وعمومها يتناول كل من أتى بحسنة ففرح بها فرح إعجاب، وأحب أن يحمده الناس، ويثنوا عليه بما ليس فيه".

فأنت ترى أن هؤلاء الأئمة الأعلام سلكوا مسلك الجمع بين سببي النزول، وإن اختلفوا في مستند هذا الجمع؛ فالرازي ، وابن كثير استندوا إلى أن الجمع بينهما مأخذه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، بمعنى أن كلاً من السببين يصلح أن يكون سبباً لنزول الآية، من غير القطع بذلك؛ لأن العبرة بالعموم اللفظي، لا بالسبب الزماني، وهذا أمر -كما لا يخفى- تدعمه أصول التفسير. ومأخذ القرطبي في الجمع بين سببي النزول مرده إلى أن نزول الآية على أكثر من سبب أمر وارد، وهو مأخذ أيضاً تؤيده الأصول. أما ابن حجر فقد جمع بين المأخذين في ترجيحه.

الرأي الثاني: ذهب إلى الترجيح، ولم يقبل بالجمع بين سببي النزول، وفي مقدمة القائلين بهذا الرأي شيخ أهل التفسير الطبري -وكان قد ذكر خمسة أقوال-، قال: "وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: "عني بذلك أهل الكتاب الذين أخبر الله جل وعز أنه أخذ ميثاقهم، ليبين للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يكتمونه؛ لأن قوله: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا} الآية، في سياق الخبر عنهم، وهو شبيه بقصتهم مع اتفاق أهل التأويل على أنهم المعنيون بذلك".

ومن الذين نحىوا منحى الترجيح أيضاً ابن عاشور؛ فبعد أن ذكر الآية ذكر كلاماً يفيد أن السياق وارد في حق أهل الكتاب، ما يعني أن سبب نزول الآية ما ذكره ابن عباس، ثم ذكر القول الوارد في رواية أبي سعيد الخدري بصيغة التضعيف، فقال: "وقيل: نزلت في المنافقين". وصنيعه هذا يفيد أنه يرجح السبب الأول في نزول هذه الآية.

هذا، وقد رجح بعض أهل العلم المعاصرين ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما في شأن نزولها في أهل الكتاب، وما ذكره من الدليل على ذلك؛ لأنه لما قال: ما لكم ولهذه الآية، إنما أنزلت في أهل الكتاب، تلا قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} قال: "وهذا نظر ظاهر منه رضي الله عنه إلى السياق القرآني، وأثره في تفسير كلام الله، وهذا هو اللائق بترجمان القرآن رضي الله عنه، وهو أقرب طريق إلى الصواب في معرفة التفسير".

ومال بعض أهل العلم المعاصرين إلى ترجيح حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ لأن حديث ابن عباس -كما قال- مما انتقد على الشيخين.

على أن بعض الباحثين ذهب إلى أن الآية لا سبب لها؛ بحجة أنه لم يُذكر حَدَثٌ معين في نزولها؛ ولكثرة الأقوال التي قيلت في سبب نزولها. وهو محجوج بالحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، الذي ينص على حدث معين، وهو سؤال النبي صلى الله عليه وسلم اليهود عن شيء، وأما كثرة الأقوال في أمر فلا يعني أن نردها كلها.

وعلى ضوء ما تقدم يمكن القول: إن سبب نزول هذه الآية الكريمة ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم اليهود عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه؛ وذلك لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول، وموافقته لسياق القرآن. ولسنا معنيين في هذا المقام بالشيء الذي سألهم عنه النبي صلى الله عليه وسلم فكتموه.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة