الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ومن يشاقق الله ورسوله...

ومن يشاقق الله ورسوله...

ومن يشاقق الله ورسوله...

من آيات المتشابه اللفظي في القرآن الكريم نقف على الآيات الثلاث التالية:

الآية الأولى: قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} (النساء:115).

الآية الثانية: قوله سبحانه: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب} (الأنفال:13).

الآية الثالثة: قوله عز وجل: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب} (الحشر:4).

والسؤال الذي قد يرد على هذه الآيات الثلاث: أن قوله سبحانه: {يشاقق} ورد بإظهار (القاف) المشددة من غير إدغام في آيتي: النساء، والأنفال، وورد اللفظ نفسه مدغماً في آية الحشر {يشاق} فهل من توجيه لذلك؟

الجواب الإجمالي عن هذا السؤال هو أن الإدغام والإظهار جائزان في العربية، وإن كان الإظهار هو الأشهر والأكثر في القرآن الكريم، قال تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر} (البقرة:138)، وقال سبحانه: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} (المائدة:54)، فـ (الإظهار) لغة أهل الحجاز، و(الإدغام) لغة تميم. فجاء القرآن بحسب اللغتين. هذا الجواب أجاب به ابن عاشور في "تحريره وتنويره".

وقد أجاب علماء المتشابه اللفظي عن هذا السؤال ببعض التفصيل، مع تقريرهم للقاعدة أعلاه، وهو أن الإظهار والإدغام جائزان لغة. وأجوبتهم أخذت المنحى التالي:

فالإسكافي أجاب بكلام حاصله: أن الأصل إذا قويت الحركة في (القاف) أن تدغم، ألا ترى أن من جوز (اردد)، مكان (رد) وكانت لغته الإظهار، متى حرك (الدال) الأخيرة في قولك للاثنين: (ردا)، وقولك للجمع: (ردوا) لم ير إلا الإدغام، ولم يجوِّز (ارددا)، ولا (ارددوا). فقوله تعالى: {ومن يشاق الله} قد قويت حركة (القاف) الأخيرة؛ لأنها لاقت كلمة قد لزم أولها السكون، وهو اللام الأولى من {الله} فحُرِّكت لملاقاة الساكن بعدها، فقوله: {ومن يشاق الله} لا تلاقي (القاف) هنا إلا ساكناً قد لزم الكلمة، فقويت الحركة؛ لأنها لا تلاقي سواه فيما علق الفعل به. وليس الحال كذلك في قوله سبحانه: {ومن يشاقق الله ورسوله} لأن (القاف) قد تلاقى ما يتعلق بها متحركاً، وهو قوله سبحانه: {ورسوله}؛ لأن التقدير: ومن يشاقق رسوله، فلم تخلص القاف فيما يتعلق بها للحركة، كما خلصت لها في آية الحشر. أما قوله سبحانه: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى} فليس الساكن من {الرسول} الذي تلاقيه (القاف) كالساكن من لفظة {الله}؛ لأن الألف غير لازمة في لفظ {الرسول} وقد تحذف، فتلاقي (القاف) متحركاً، نحو: (ومن يشاقق رسول الله). فتحصل أن الذي أوجب الإدغام {ومن يشاق الله} في سورة الحشر هو قوة الحركة في (القاف)، وقوتها أن الاسم الذي بعدها ساكن سكوناً لازماً، لا يقوم مقامه متحرك في حال، أما في سورتي النساء والأنفال فليس الحال على هذا الوصف؛ إذ السكون في لفظ {الرسول} غير لازم.

وأجاب الكرماني بجواب أخصر وأفيد مما ذكره الإسكافي، قال: إن الحرف الثاني من المثلين -أي: القاف الثانية- إذا تحرك بحركة لازمة، وجب إدغام الأول في الثاني، ألا ترى أنك تقول: (اردد له) بالإظهار، ولا يجوز (ارددا)، أو (ارددوا)؛ لأنها تحركت بحركة لازمة، والألف واللام في {الله} لازمتان، فصارت حركة (القاف) لازمة، وليس الألف واللام في {الرسول} كذلك. وأما في الأنفال؛ فلانضمام (الرسول) إليه في العطف، ولم يدغم فيها؛ لأن التقدير في (القافات) قد اتصل بهما، فإن الواو العاطفة توجب ذلك.

أما الغرناطي فقد خرَّج لفظ {يشاقق} في آية النساء على الأصل، وهو الإظهار؛ لأنه لم يقترن به ما يستدعى تخفيفه بالإدغام، ولا سؤال عنده في ذلك. وبقي عنده السؤال عن آيتي الأنفال والحشر، ووجه الفرق بينهما بقوله: لما تقدم في سورة الحشر قوله تعالى: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله}، وتقدم الماضي مدغماً {شاقوا}، ولم يُسمع في الماضي إلا تلك اللغة، فجيء بما حُمِل عليه من قوله: {ومن يشاق الله} مدغماً؛ ليحصل مجيء الإدغام قبله في الماضي من قوله: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله}، فمرد الإدغام في سورة الحشر –بحسب الغرناطي- تقَدُّم الفعل الماضي مدغماً {شاقوا}، فاستدعى أن يأتي الفعل بعده مدغماً {يشاق}. أما في سورة الأنفال فعلى الرغم من أن الفعل سُبق بالفعل الماضي المدغم {شاقوا}، إلا أن ما بعده من العطف {ورسوله} استدعى فك الإدغام {ومن يشاقق الله ورسوله}، فروعي البعدي على القبلي؛ لأنه أقوى في الاعتبار، فلم يدغموا؛ إذ المتقدم في حكم المنقطع، والمتأخر في حكم المتصل؛ لأنه في النطق أقرب، وورد ذلك بالعطف بـ (الواو) الجامعة، وهو ما يناسب فك الإدغام.

والأقرب إلى الصواب -فيما يبدو- في الجواب عن السؤال الذي أدرنا عليه هذه السطور ما ذكره الشيخ ابن عاشور رحمه الله، أما ما ذكره الأئمة الباقون من تفصيل، فلا يخلو من تكلف في التوجيه، وغموض في البيان، والله الهادي للصواب.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة