الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

(كلا) في القرآن الكريم

(كلا) في القرآن الكريم

(كلا) في القرآن الكريم

في لغة العرب حروف تسمى بحروف المعاني، كـ (على) و(في) و(بل)، ونحو ذلك من الحروف، التي يدل كل حرف منها على معنى رئيس، ويدل أيضاً على معان أُخر، تستفاد من سياق الكلام.

ومن هذه الحروف (كلا)، وهو حرف ردع وزجر عن مضمون كلام سابق من متكلم واحد، أو من كلام يُحكى عن متكلم آخر، أو مسموع منه، كقوله تعالى: {قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين} (الشعراء:61-62).

والأكثر أن تأتي عقب آخر الكلام المبطَل بها، وقد تُقدَّم عليه؛ للاهتمام بالإبطال وتعجيله، والتشويق إلى سماع الكلام الذي سيرد بعدها، كما في قوله تعالى: {كلا والقمر * والليل إذ أدبر * والصبح إذا أسفر * إنها لإحدى الكبر} (المدثر:32-35). ولما فيها من معنى الإبطال، كانت في معنى النفي، فهي نقيض (إي) و(أجل) ونحوهما من أحرف الجواب. والغالب أن تكون متبعة بكلام بعدها، فلا يُعهد في كلام العرب أن يقول قائل في رد كلام: (كلا) ويسكت.

وفي معناها لأهل اللغة أقوال؛ فمعناها عند سيبوبه والخليل وأكثر البصريين الردع والزجر، لا معنى لها عندهم إلا ذلك، حتى إنهم يجيزون أبداً الوقف عليها، والابتداء بما بعدها.

وذهب فريق من أهل اللغة إلى أن معناها ليس مقتصراً على الردع والزجر، وإنما تكون أيضاً بمعنى (حقاً)، و(ألا) الاستفتاحية، وتكون حرف جواب بمنزلة (إي) و(نعم)، وحملوا عليه قوله سبحانه: {كلا والقمر} فقالوا: معناه، إي والقمر.

ورجح ابن هشام أن يكون معناها -إضافة إلى معنى الردع والزجر- معنى (ألا) الاستفتاحية، وإذا صَلَحَ الموضع للردع ولغيره، جاز الوقف عليها والابتداء بها على اختلاف التقديرين، والأرجح حملها على الردع؛ لأنه الغالب فيها، نحو قوله سبحانه: {أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا * كلا سنكتب ما يقول} (مريم:78-79)، وقوله عز وجل: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم} (81-82). وقد تتعين للردع، أو الاستفتاح، نحو قوله سبحانه: {قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت * كلا إنها كلمة هو قائلها} (المؤمنون:99-100).

وقد يمتنع كونها للزجر، كقوله سبحانه: {وما هي إلا ذكرى للبشر * كلا والقمر} (المدثر:31-32) إذ ليس قبلها ما يصح رده.

وذكر ابن فارس أن (كلا) جاءت في القرآن الكريم على أربعة معان، هي:

(كلا) بمعنى الرد والإبطال

جاء على هذا المعنى قوله تعالى في قصة من قال: {لأوتين مالاً وولداً * أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا * كلا سنكتب ما يقول} (مريم:77-79) أي: إنه لم يطلع، ولم يتخذ العهد. قال ابن فارس: "وأصوب ما يقال في ذلك: إن (كلا) رد للمعنيين جميعاً؛ وذلك أن الكافر ادعى أمراً، فكذب فيه، ثم قيل: أتراه اتخذ عهداً، أم اطلع الغيب، {كلا} أي: لا يكون ذا، ولا ذاك".

وأما قوله تعالى {ليكونا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم} (مريم:81-82) فـ {كلا} رد لما قبله، وإثبات لما بعده؛ لأنهم زعموا أن الآلهة تكون لهم عزاً؛ وذلك لقولهم {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر:3)، فقيل لهم: {كلا} أي: ليس الأمر كما تقولون، ثم جيء بعد بخبر، وأكد بـ {كلا} وهو قوله سبحانه: {سيكفرون بعبادتهم} (مريم:82).

ومن هذا الباب قوله سبحانه: {لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا} (المؤمنون:100) فلها مواضع ثلاثة: أولها: قوله: {ارجعون} فقيل له: {كلا} أي: لا ترد. والثاني: قوله تعالى: {أعمل صالحا}، فقيل له: {كلا} أي: لست ممن يعمل صالحاً، وهو كقوله: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} (الأنعام:28). والموضع الثالث: تحقيق؛ لقوله: {إنها كلمة هو قائلها} (المؤمنون:100).

أما قوله عز وجل: {ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون * قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون} (الشعراء:14-15) فهو رد في حالة، وردع في أخرى. فأما مكان الردع، فقوله سبحانه: {فأخاف أن يقتلون} فقيل له: {كلا} أي: لا تخف، فهذا ردع. وأما الرد فقوله في السورة نفسها: {قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين} (الشعراء:61-62) فهو نفي لما قبله، وإثبات لما بعده. قال ابن عاشور: والإبطال لقوله: {فأخاف أن يقتلون} أي: لا يقتلونك. وفي هذا الإبطال استجابة لما تضمنه التعريض بالدعاء حين قال: {ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون}.

وبحسب هذا المعنى قوله سبحانه: {قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا} (سبأ:27)، له ثلاثة مواضع: أحدها: أن تكون ردًّا على قوله: {أروني} أي: إنهم لا يرون ذلك، وكيف يرون شيئاً لا يكون. والموضع الثاني: قوله سبحانه: {ألحقتم به شركاء} فهو رد له، أي: لا شريك له. والثالث: أنها تحقيق؛ لقوله تعالى: {بل هو الله العزيز الحكيم} (سبأ:27). ومعنى قوله: {أروني} ههنا: أعلموني.

ومنه قوله تعالى: {يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤويه * ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه * كلا إنها لظى} (المعارج:11-15)، فردٌّ لقولهم: {ثم ينجيه}، أو رد لقوله: {لو يفتدي}. ومن هذا القبيل قوله عز من قائل: {أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم * كلا إنا خلقناهم مما يعلمون} (المعارج:38-39)، أي: خلقناهم من نطفة كما خلقنا بني آدم كلهم، ومِن حكمنا في بني آدم أن لا يدخل أحد منهم الجنة إلا بالإيمان والعمل الصالح، فلِمَ يطمع كل امرئ منهم ليس بمؤمن ولا صالح أن يدخل الجنة، ولا يدخلها إلا مؤمن عمل صالحاً.

ومنه كذلك قوله تعالى: {ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا} (المدثر:15-16)، فهو رد أن لا يزد؛ وذلك أن الوليد بن المغيرة كان يقول: ما أعطيت أعطيته إلا من خير، ولا حرمه غيري إلا من هوان، فإن كان ما يقوله محمد حقاً، فما أعطاه في الآخرة أفضل، فقيل له: {ثم يطمع أن أزيد كلا} أي: لا يكون ذلك. وكذلك قوله سبحانه: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا} (الفجر:15-17).

ومما جاء من {كلا} بمعنى الرد غير ما تقدم قوله سبحانه: {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة * كلا بل لا يخافون الآخرة} (المدثر:52-53) أي: لا مفر، أكد ذلك بقوله: {لا وزر} تأكيداً لقوله: {كلا}. ومنه أيضاً قوله عز وجل: {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * كلا بل ران على قلوبهم} (المطففين:13-14) فهو رد، أي: إنها ليست بأساطير الأولين. ومن الرد قوله سبحانه: {يحسب أن ماله أخلده * كلا لينبذن في الحطمة} (الهمزة:3-4)، أي: ليس كما يظن؛ فإن ماله لن يخلده.

(كلا) تحقيق لما بعدها

جاء بحسب هذا المعنى قوله سبحانه: {كلا إنها تذكرة} (عبس:11)، (إن) هنا حرف تأكيد، و{كلا} زيادة تأكيد.، أي: حقاً إنَّ آي السورة، أو آيات القرآن تذكرة وموعظة وتبصرة للخلق. ومثله قوله سبحانه: {كلا سيعلمون * ثم كلا سيعلمون} (النبأ:4-5) أي: حقاً ليعلمن صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن ومما ذكره لهم من البعث بعد الموت. وذكر القرطبي أن {كلا} في الآيتين هنا تحتمل أن تكون بمعنى الردع والزجر.

ومما جاء بمعنى التحقيق قوله عز وجل: {ثم إذا شاء أنشره * كلا لما يقض ما أمره} (عبس:22-23) أي: إنه لم يقضِ ما أُمر به. ومثله قوله سبحانه: {كلا بل تكذبون بالدين} (الانفطار:9) وهو تحقيق لما بعده. قال القرطبي: "ويجوز أن تكون بمعنى (لا)، على أن يكون المعنى: ليس الأمر كما تقولون من أنكم في عبادتكم غير الله محقون. يدل على ذلك قوله تعالى: {ما غرك بربك الكريم} (الانفطار:6).

ومن معاني التحقيق أيضاً قوله عز وجل: {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين} (المطففين:7)، قال الحسن: {كلا} بمعنى حقاً. ومثل ذلك قوله سبحانه في السورة نفسها: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين} (المطففين:18)، ومثله قوله تعالى: {كلا إن الإنسان ليطغى} (العلق:6)، وقوله سبحانه: {كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية} (العلق:15).

(كلا) بمعنى الردع والزجر

جاء بحسب هذا المعنى قوله عز وجل: {قال كلا إن معي ربي سيهدين} (الشعراء:61)، فقوله: {كلا} رَدْعٌ، رَدَعَ به موسى ظنهم أنهم يدركهم فرعون، وعلل ردعهم عن ذلك بجملة: {إن معي ربي سيهدين}.

وجاء أيضاً بمعنى الردع قوله سبحانه: {ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون} (التكاثر:1-3) ردعهم عن التكاثر، ثم أعاد أخرى، فقال: {ثم كلا سوف تعلمون} (التكاثر:4) أي: إنكم افتخرتم، وتكاثرتم، وظننتم أن هذا ينفع شيئاً، ثم أكد ذلك بقوله: {كلا لو تعلمون علم اليقين} (التكاثر:5) إبلاغاً في الموعظة. قال الفراء: أي: ليس الأمر على ما أنتم عليه من التفاخر والتكاثر، وسوف تعلمون عاقبة هذا. ومنه قوله سبحانه: {فأنت عنه تلهى * كلا إنها تذكرة} (عبس:10-11) أي: لا تفعل ذلك. ومنه: {كلا لا تطعه} (العلق:19)، قال ابن عاشور: و{كلا} ردع لإبطال ما تضمنه قوله: {فليدع ناديه} (العلق:17)، أي: وليس بفاعل، وهذا تأكيد للتحدي والتعجيز".

(كلا) تكون صلة الأيمان (القَسَم)

جاء على هذا المعنى قوله سبحانه: {كلا والقمر} (المدثر:32) قال الفراء: {كلا} صلة للقَسَم، التقدير: إي والقمر. وقيل: المعنى: حقاً والقمر، فلا يوقف على هذين التقديرين على {كلا}، وأجاز الطبري الوقف عليها، وجعلها رداً للذين زعموا أنهم يقاومون خزنة جهنم، أي: ليس الأمر كما يقول من زعم أنه يقاوم خزنة النار. ثم أقسم على ذلك عز وجل بالقمر وبما بعده. ويقال: إن معناها: ألا والقمر، أي: والقمر. وذكر ابن عاشور أن {كلا} في الآية هنا محتمل لأن يكون إبطالاً لما قبله من قولهم: {ماذا أراد الله بهذا مثلا} (المدثر:31)، فيكون ما بينهما اعتراضاً، ويكون قوله: {والقمر} ابتداء كلام، فيحسن الوقف على {كلا}. ويحتمل أن يكون {كلا} هنا حرف إبطال مقدَّماً على الكلام الذي بعده من قوله: {إنها لإحدى الكبر * نذيرا للبشر} (المدثر:35-36) تقديمَ اهتمام؛ لإبطال ما يجيء بعده من مضمون قوله: {نذيرا للبشر} أي: من حقهم أن ينتذروا بها، فلم ينتذر أكثرهم، على نحو معنى قوله سبحانه: {وأنى له الذكرى} (الفجر:23)، فيحسن أن توصل في القراءة بما بعدها.

الوقوف على (كلا)

ومما هو على صلة بباب {كلا } أنها إذا كانت بمعنى (الردع) جاز الوقوف عليها عند الجمهور؛ لأنها أفادت معنى تامًّا يحسن السكوت عليه، ومنع المبرَّد الوقف عليها؛ بناء على أنها لا بد أن تُتْبَع بكلام. وقد قال ابن فارس: "إذا أردت رد الكلام بـ (كلا) جاز لك الوقف عليها؛ لأن المعنى قد تم عند الرد؛ وذلك أن تقول لقائل: أكلت تمراً؟ فتقول: كلا، أي: إني لم آكله. فقولك (كلا) مبني على خبر قد ذكره غيرك، ونفيته أنت".

وذكر الفراء أن مواقعها في القرآن من حيث الوقف والابتداء أربعة:

- موقع يحسن الوقف عليها، والابتداء بها، كقوله سبحانه: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا * أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا * كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا} (مريم:77-79).

- وموقع يحسن الوقف عليها، ولا يحسن الابتداء بها، كقوله تعالى: {ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون * قال كلا فاذهبا بآياتنا إن معكم مستمعون} (الشعراء:14-15).

- وموقع يحسن الابتداء بها، ولا يحسن الوقف عليها، كقوله عز وجل: {كلا إنها تذكرة} (عبس:11).

- وموقع لا يحسن فيه الوقوف عليها ولا الابتداء بها، كقوله تعالى: {ثم كلا سوف تعلمون} (التكاثر:4).

وذهب الفيروز آبادي أن {كلا} في القرآن الكريم يحسن الوقوف عليها في تسعة عشر موضعاً، هي: موضعان في مريم، وموضعان في الشعراء، وموضعان في المعارج، وموضعان في المدثر، وموضع في كل من المؤمنين، وسبأ، والقيامة، والمطففين، والفجر، والهُمَزَة. وما تبقى من مواضعها لا يحسن الوقف عليها.

هذا، وليس في النصف الأول من كتاب الله عز وجل {كلا}، بل جاءت في كل مواضعها -وهي ثلاثة وثلاثون موضعاً- في النصف الآخر من القرآن، وأكثر ما جاءت في السور المكية.

وحاصل القول في {كلا} إنها جاءت في القرآن الكريم على أربعة أوجه، يجمعها وجهان: رد وردع، وهما متقاربان، تحقيق وصلة يمين، وهما متقاربان. فالرد كقوله سبحانه: {ليكونوا لهم عزا * كلا} وهو الذي يُوقف عليه، والردع مثل قوله: {كلا سيعلمون}، والتحقيق كقوله: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين}، وصلة اليمين مثل قوله: {كلا والقمر}.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة