الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فوائد من كتاب النبي إلى مقوقس مصر

فوائد من كتاب النبي إلى مقوقس مصر

فوائد من كتاب النبي إلى مقوقس مصر

كتابة الرسائل بين الملوك والرؤساء وإيفاد الرُسل من الأمور المعروفة بين الدول، وقد انتهج النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب لإيصال دعوته إلى الدنيا كلها، وقد أطلق المتأخرون على هؤلاء الرسل "السفراء"، بموجب المصطلحات السياسية الحديثة، وقد نقل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الرسائل دعوته إلى ملوك الأرض وأمرائها، وعرَّفهم بالدين الجديد الذي يكفل لأتباعه سعادة الدارين، عملاً بقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف: 108)، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف:158)، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً) رواه البخاري.

ومن رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى القادة والملوك التي يدعوهم فيها إلى الإسلام، رسالته إلى جُرَيْج بـن مَتَّي ـ ملك مصر والإسكندرية ـ والمُلَقّب بالمُقَوْقِس، وقد بعث به مع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه. ذكر الواقدي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى المقوقس مع حاطب بن أبي بلتعة: "بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم القبط (أي أهل مصر)، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64)".

ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس تحمل في طياتها الكثير من الفوائد، ومنها:

ـ حكمته صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله عز وجل، ونستطيع أن نرى ذلك من خلال الرجوع إلى ما تضمنته هذه الرسالة، حيث كان المقوقس ممن يدين بالنصرانية المحرّفة التي تغلو في المسيح عيسى عليه السلام وترفعه إلى درجة الألوهية، ومن ثم أكد النبي صلى الله عليه وسلم على عبودية الناس لله رب العالمين، فذكر في رسالته إليه قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64).
ـ استحباب ابتداء الكلام بـ "بسم الله الرحمن الرحيم" في الكتب والمراسلات وغيرها، قال الطيبي: "استحباب تصدير الكلام بالبسملة وإن كان المبعوث إليه كافراً".
ـ ومنها: أن السُنّة في المكاتبة بين الناس أن يُبْدَأ بنفسه: "من محمد بن عبد الله إلى المقوقس"، وكما قال الله تعالي: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (النمل:30).
ـ تسمية الملوك بأسمائهم وألقابهم التي عُرِفوا بها ولا يوجد فيها خطأ شرعي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلى المقوقس عظيم القبط).
ـ التحية على غير المسلمين بقول: سلام على من اتبع الهدى.
ـ العلم بحال المدعو وما ينبغي أن يُبدأ به معه في دعوته، وما يناسب حاله.
ـ اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كان قائماً على ما يتحلى به من فصاحة ومقدرة على المحاورة وعِلم بالنصرانية، وصبر وشجاعة، وحكمة وحسن تصرف، وقد قال في وصفه ابن حجر في كتابه الإصابة :"كان أحد فرسان قريش وشعرائها في الجاهلية".
ـ جواز قبول الهدية من أهل الكتاب إذا لم يكن في قبولها مداهنة أو تنازلات عن قضايا الدين.

حوار حاطب بن أبي بلتعة والمقوقس:

قال ابن كثير في البداية والنهاية أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك الإسكندرية، قال: فجئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلني في منزله، وأقمت عنده، ثم بعث إليَّ وقد جمع بطارقته، وقال: إني سائلك عن كلام فأحب أن تفهم عني، قال: قلتُ: هلمّ، قال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبي؟ قلتُ: بلى هو رسول الله، قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها؟ قال: فقلت: عيسى ابن مريم أليس تشهد أنه رسول الله؟ قال: بلى. قلت: فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه، إلا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حيث رفعه الله إلى السماء الدنيا؟ فقال لي: أنت حكيم قد جاء من عند حكيم".
وقال ابن القيم: " وقال حاطب للمقوقس لما لقيه: إنه قد كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فانتقم به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك ولا يعتبر بك غيرك. قال: هات، قال: إن لنا دينا لم ندعه إلا لما هو خير منه وهو الإسلام الكافي به الله فقد ما سواه، إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه إنكاراً قريش وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحم،. وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قوما فهم من أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدرك هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكنا نأمرك به. فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي فرأيته لا يأمر بمزهود فيه ولا ينهى عن مرغوب عنه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آلة النبوة، من إخراج الخبء (الغائب المستور، يشير إلى إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات التي أطلعه الله عليها)، والإخبار بالنجوى، ووصف لحاطب أشياء من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: القبط لا يطاوعوني في اتباعه، ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك، وأنا أضن بملكي أن أفارقه، وسيظهر على البلاد وينزل بساحتنا هذه أصحابه من بعده، فارجع إلى صاحبك.وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعله في حق (إناء صغير) من عاج وختم عليه ودفعه إلى جاريته، ثم دعا كاتباً له يكتب بالعربية فكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبد الله، من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك"، ولم يرده إلا مُكرّماً، والجاريتان: مارية وسيرين، والبغلة: دلول، وبقيت إلى زمن معاوية. قال حاطب: فذكرت قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ضنَّ (بخِل) الخبيث بمُلكه ولا بقاء لملكه". واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم مارية سرية له، وهي التي ولدت له إبراهيم، وأما سيرين فأعطاها لحسان بن ثابت رضي الله عنه".

خطاب المقوقس للنبي صلى الله عليه وسلم يدل على إكباره للنبي صلى الله عليه وسلم، كما يدل على أنه لم يُسْلِم، والذي يبدو أن الرجل خاف على مُلكه وبخل به، ولولا هذا لآمن ونال حظه من الإسلام، ولا غرابة في الرد الحسن على رسائل النبي صلى الله عليه وسلم من المقوقس فهو من النصارى وهم أهل كتاب، وقد علموا من أناجيلهم أن نبياً في آخر الزمان سوف يُبعث، وقد علموا علاماته، ولعل هذا يوضح سبب اختلاف رد المقوقس وهرقل عن رد كسرى الذي لم يكن عنده علم من الكتاب، ولكنهم لم يسلموا لخوفهم على مُلكهم.

لما كانت رسالة الإسلام رسالة عالمية، قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)، كان لا بد أن يحقق النبي صلى الله عليه وسلم هذه العالمية فيدعو الناس جميعاً إلى الإسلام، ومن ثم لم يدخر جهداً لنشر الإسلام والدعوة إليه، ومن ذلك إرساله لعدد من الرسائل إلى ملوك وأمراء العالم المعاصر له، تحمل حرصه على إسلامهم، وإبلاغهم دعوته إليهم، فعن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر وإلى النجاشي ـ وهو غير الذي صلّى عليه - وإلى كل جبّار يدعوهم إلى الله عز وجل) رواه مسلم. قال النووي: " إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى .. أما كسرى فهو لقب لكل من ملك من ملوك الفرس، وقيصر لقب من ملك الروم، والنجاشي لكل من ملك الحبشة .. وفي هذا الحديث جواز مكاتبة الكفار، ودعاؤهم إلى الإسلام".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة