الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أسلوب الإرصاد في القرآن

أسلوب الإرصاد في القرآن

أسلوب الإرصاد في القرآن

تضمن القرآن الكريم أنواعاً من البديع والبيان، ومن تلك الأنواع ما يسمى بـ (الإرصاد) وصفه أهل البيان بأنه لطيف المأخذ، دقيق الصنعة؛ فإن خير الكلام ما دل بعضه على بعض. فما هو المراد بهذا النوع من البيان؟ هذا ما نحاول أن نرصده في هذا المقال، فنقول:

(الإرصاد) لغة مصدر أرصد الشيء: إذا أعده، ومنه قوله تعالى: {إن ربك لبالمرصاد} (الفجر: 14) وهو مفعال، من رصده، كالميقات، من وقّته، والغرض أن الله تعالى أعد العقاب للعصاة من غير أن يفوتوه بهرب ولا امتناع. وأرصدت السلاح للحرب، أي: أعددته. وهو في لسان علماء البيان معهود في المنظوم من الكلام والمنثور على أن يكون أول الكلام مرصداً لفهم آخره، ويكون مشعراً به، فمتى قرع سمع السامع أول الكلام، فإنه يفهم آخره لا محالة، فما كان هذا حاله من منثور اللفظ ومنظومه، يقال له: الإرصاد، فهذا هو وجه تلقيبه بالإرصاد.

و(الإرصاد) في الكلام المنظوم هو أن يبني الشاعر البيت على قافية قد أرصدها له، أي: أعدها في نفسه، فإذا أنشد صدر البيت عرف ما يأتي به في قافيته؛ وذلك من محاسن التأليف؛ لأن خير الكلام ما دل بعضه على بعض.

وقد مثلوا لهذا النوع من البيان بقول البحتري:

أحلت دمي من غير جرم وحرمت بلا سبب يوم اللقاء كلامي

فليس الذي حللته بمحلَّل وليس الذي حرمته بحرام

فلو وقف المتكلم عند قوله: (حَلَّلْتِهِ) لقال السامع: (بِمُحَلَّلٍ)، ولو وقف عند قوله: (حَرَّمْتِهِ) لقال السامع: (بحرام)؛ لأن سوابق الكلام تدل على ختامه.

ومن أمثلته أيضاً قول زهير:

سَئِمْتُ تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم

فكلمة (يسأم) يأتي بها السامع قبل أن ينطق بها المتكلم؛ لأن أول الكلام موطئٌ لها.

قال ابن عرفة في تفسيره: "إن من قواعد علم البيان الإرصاد، وهو أن يكون الكلام دالاً على معنى الذي بعده، وهذا أحد معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد معجزات القرآن".

أمثلة الإرصاد في القرآن

وقد جاء أسلوب الإرصاد في القرآن في مواضع عديدة؛ وما ذاك إلا لأن خير الكلام ما دل بعضه على بعض، وأحق الكلام بهذه الصفة هو كلام الله، فإنه البالغ في الذروة العليا من الفصاحة في ألفاظه، والبلاغة في معناه، ومما جاء على هذا الأسلوب نذكر ما يلي:

- قوله تعالى: {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون} (يونس:19)، فإذا وقف السامع على قوله تعالى: {لقضي بينهم فيما فيه} عرف أن بعده {يختلفون} لما تقدم من الدلالة عليه في قوله: {فاختلفوا}.

- قوله سبحانه: {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (العنكبوت:40)، فإذا قرأ السامع قوله تعالى: {ولكن كانوا أنفسهم} عرف لا محالة أن بعده ذكر (ظلم النفوس)؛ لما كان في صدر الكلام ما يدل عليه دلالة ظاهرة، وأمارة قوية؛ فغرض الآية نفي أن يكون من الله ظلم للعباد، وإثبات ظلمهم لأنفسهم، وطبيعة الأسلوب الذي يؤدَّى به مثل هذا الغرض، أن يدل أوله على آخره، وسابقه على لاحقه؛ ولذلك قال السبكي: لو وقف القارئ على {أنفسهم} لفهم أن بعده {يظلمون}.

- قوله عز وجل: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} (العنكبوت:41)، فإذا وقف السامع على قوله عز وجل: {وإن أوهن البيوت} علم أن بعده (بيت العنكبوت).

- قوله تعالى: {ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور} (سبأ:17)، فإن مقدمة هذه الآية تدل المتلقي لها على الكلمة الأخيرة منها، فمن سمع قوله تعالى: {ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي} قال دون تفكير طويل: {إلا الكفور}.

- قوله سبحانه: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن:60)، فإذا وقف السامع على قوله تعالى: {هل جزاء الإحسان}، تحقق لا محالة أن ما بعده قوله: {إلا الإحسان} لما في ذلك من الملائمة وشدة التناسب بين صدر الكلام وختامه.

- قوله عز وجل: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} (طه:130)، فإن السامع إذا سمع قوله تعالى: {قبل طلوع الشمس} علم أن ما بعده قوله: {وقبل غروبها}؛ لدلالة أول الكلام على آخره. ومن هذا القبيل أيضاً قوله عز وجل: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} (ق:39)، فأول الكلام دال على آخره.

- قوله تبارك وتعالى: {ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} (المؤمنون:14)، فإذا سمع السامع قوله عز وجل: {ثم أنشأناه خلقا آخر} علم أن ما بعده قوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين}؛ لأن صدر الكلام دال على عجزه. وقد روى ابن عطية عن السدي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قوله سبحانه: {ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر} (المؤمنون:14)، فقال عبد الله بن أبي سرح: (فتبارك الله أحسن الخالقين)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كذلك أنزلت).

هذا، ومما يستوقف الناظر أن المفسرين -فيما رجعنا إليه- لم يذكروا هذا النوع من البيان في تفاسيرهم، سوى ما نقلناه عن ابن عرفة، وكذلك لم يعرض له كل من الزركشي في "برهانه"، والسيوطي في "إتقانه"، غير أن أهل الأدب والبيان تعرضوا لهذا النوع من البيان، وكان كلامهم عمدتنا فيما حررناه في هذه السطور.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة