الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تنوع الخطاب القرآني

تنوع الخطاب القرآني

تنوع الخطاب القرآني

ذكر الطبري في "جامعه: أن العرب تذكر الواحد بمعنى الجمع، فتقول: "فلان كثير الدرهم والدينار" يراد به: الدراهم والدنانير. وتقول: "هلك البعير والشاةُ"، بمعنى جماعة الإبل والشاء. وروى ابن المنذر عن أبي عبيدة عند تفسيره لقوله تعالى: {وحسن أولئك رفيقا} أي: رفقاء، قال: "والعرب تلفظ بلفظ الواحد، والمعنى يقع على الجميع". وأكد هذا السمعاني بقوله: "والعرب قد تذكر الواحد بلفظ الجمع، والجمع بلفظ الواحد".

وقد قال القرطبي: "العرب قد تسمي الجمع باسم الواحد، قال الشاعر:

يلحينني في حبها ويلمنني وإن العواذل ليس لي بأمير

ولم يقل: أمراء".

وقال الأشهب بن رميلة:

"وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد

ولم يقل: وإن الذين حانت..".

وقد وصف الطبري هذا الأسلوب من الكلام بأنه "مستفيض في كلام العرب وأشعارها"، وأن "نظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى".

والقرآن الكريم جاء على وفق لسان العرب، فجاء فيه ذكر اللفظ المفرد مراداً به الجمع، وجاء فيه ذكر اللفظ الجمع مراداً به المفرد، وجاء فيه ذكر اللفظ المفرد مراداً به المثنى، وجاء فيه ذكر اللفظ المثنى مراداً به المفرد، وجاء فيه لفظ الجمع مراداً به المثنى، كل ذلك اتساعاً في الكلام، وتفنناً فيه، وتنويعاً لأساليبه. وفي هذه السطور نأتي بأمثلة لكل من هذه الأساليب الخمسة في الخطاب القرآني:

أولاً: ذكر اللفظ المفرد بمعنى الجمع

تضمن القرآن الكريم كثيراً من الألفاظ المفردة، والمراد منها الجمع، نذكر من الأمثلة على ذلك ما يلي:

* قوله تعالى: {ويقيمون الصلاة} (البقرة:3) المراد بها الصلوات الخمس، ذًكر بلفظ الواحد. ومثله قوله تعالى: {والمقيمين الصلاة} (النساء:162).

* قوله سبحانه: {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق} (البقرة:213) يعني الكتب؛ لأن لكل نبي كتاب.

* قوله عز وجل: {إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين} (المعارج:19-22) استثنى الجمع {المصلين} من الواحد {الإنسان}؛ لأن {الإنسان} في معنى الجمع كقوله سبحانه: {إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} (العصر:2-3). ومثله قوله تعالى: {خلق الإنسان من نطفة} (النحل:4)، وقوله سبحانه: {خلق الإنسان من عجل} (الأنبياء:37) عنى بـ {الإنسان} جميع الناس، جاء بلفظ الواحد، وهو في معنى الجمع.

* قوله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} (البقرة:40) قوله: {نعمتي} أَي: نعمي، ذكر الجمع بلفظ الواحد. ومثله قوله تبارك وتعالى: {وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها} (إبراهيم:34) أي: نِعَمَ الله.

* قوله عز وجل: {لهم فيها فاكهة} (يس:57) أي: فواكه.

* قوله تعالى: {فيها عين جارية} (الغاشية:12) أي: عيون.

* قوله سبحانه: {وجعل الظلمات والنور} (الأنعام:1) أي: الأنوار. ونحوه قوله تبارك وتعالى: {أم هل تستوي الظلمات والنور} (الرعد:16).

* قوله عز وجل: {ثم يخرجكم طفلا} (غافر:67) أي: أطفالاً.

* قوله تعالى: {خلق السموات والأرض} (الأنعام:1) أي: الأرضين، وهو كذلك في جميع القرآن.

* قوله سبحانه: {أجعلتم سقاية الحاج} (التوبة:19) أي: الحجاج.

* قوله عز وجل: {ويكونون عليهم ضدا} (مريم:82) أي: أضداداً.

* قوله تعالى: {وهم لكم عدو} (الكهف:50) أي: أعداء. ونحوه قوله سبحانه: {فإنهم عدو لي} (الشعراء:77) أي: أعداء لي. ومثله قوله تبارك وتعالى: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} (الممتحنة:1) أي: أعدائي وأعداؤكم. ومثله أيضاً: {هم العدو فاحذرهم} (المنافقون:4) أي: هم الأعداء.

* قوله سبحانه: {وما جعلناهم جسدا} (الأنبياء:8) أي: أجساداً.

* قوله عز وجل: {فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين} (الأنبياء:15) أي: حصائد.

* قوله تعالى: {وخضتم كالذي خاضوا} (التوبة:69) أي: كالذين خاضوا.

* قوله سبحانه: {فالتقى الماء على أمر قد قدر} (القمر:12) قال الطبري: "الالتقاء لا يكون من واحد، وإنما يكون من اثنين فصاعداً؛ لأن الماء قد يكون جمعاً وواحداً، وأريد به في هذا الموضع: مياه السماء ومياه الأرض، فخرج بلفظ الواحد ومعناه الجمع".

* قوله عز وجل: {والموفون بعهدهم} (البقرة:177) أي: بعهودهم.

* قوله تعالى: {هن أم الكتاب} (آل عمران:7) أي: أمهات الكتاب، بدليل قوله قبل: {هن} اسم إشارة للمؤنث الجمع.

* قوله سبحانه: {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب} (ص:21) أي: الخصوم؛ بدليل قوله بعدُ {إذ تسوروا المحراب} فجاء الكلام بصيغة الجمع.

* قوله عز وجل: {وهل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين} (الذاريات:24) أي: أضياف إبراهيم؛ لأنه وصفهم بقوله: {مكرمين} بصيغة الجمع.

* قوله تعالى: {وحسن أولئك رفيقا} (النساء:69) أي: رفقاء. قال الطبري: "و(الرفيق) في لفظ واحد بمعنى الجميع".

* قوله سبحانه: {ويولون الدبر} (القمر:45) أي: الأدبار.

* قوله عز وجل: {في جنات ونهر} (القمر:54) أي: أنهار.

* قوله تعالى: {والملك على أرجائها} (الحاقة:17) أي: الملائكة.

* قوله سبحانه: {ليظهره على الدين كله} (التوبة:33) أي: على الأديان كلها.

ومن المفيد أن نشير هنا إلى أن هذه الألفاظ المفردة والمراد بها الجمع، قد يقال عنها: إنها أسماء جنس، واسم الجنس يُطلق على المفرد والجمع، ومن هنا قال الطبري: "العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد؛ لأداء الواحد عن جميع جنسه".

ثانياً: ذكر اللفظ الجمع بمعنى المفرد

ذكر السمعاني في تفسيره أن ما جاء بحسب هذا الأسلوب كثير في القرآن، فمن أمثلته نذكر ما يلي:

* قوله عز وجل: {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه} (آل عمران:45) أي: جبريل وحده، قال ابن كثير: "إنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله، فكان عيسى عليه السلام". ومثله قوله تبارك وتعالى: {وإذ قالت الملائكة} (آل عمران:42) المراد: جبريل وحده.

* قوله عز وجل: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر:9) أخبر سبحانه عن نفسه بلفظ الجمع على طريق التفخيم والتعظيم.

* قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} (آل عمران:173) لفظ {الناس} الأول جمع، وقائل ذلك واحد، وهو فيما تظاهرت به الرواية من أهل السير نعيم بن مسعود الأشجعي، الذي أراد أن يثبط المسلمين عن قتال قريش.

* قوله عز وجل: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} (المؤمنون:51) قيل: عنى بذلك النبي عيسى عليه السلام.

* قوله تعالى: {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين} (يوسف:35) قال الطبري: "ثم بدا للعزيز، زوج المرأة التي راودت يوسف عن نفسه"، فجاء الضمير بصيغة الجمع والمراد واحد.

* قوله سبحانه: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} (البقرة:199) لفظ {الناس} جمع، والمراد واحد، وهو إبراهيم عليه السلام على ما اختاره الطبري، قال: "أولى التأويلين بتأويل الآية ما قاله الضحاك من أن الله عنى بقوله: {من حيث أفاض الناس}، من حيث أفاض إبراهيم".

* قوله عز وجل: {لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام} (المائدة:2) المراد بـ {الشهر الحرام} الأشهر الحرم: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.

* قوله تعالى: {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله} (النخل:48) قال الزمخشري: "و{اليمين} بمعنى الأيمان، يعني أنه مفرد قائم مقام الجمع، وحينئذ فهما في المعنى جمعان".

* قوله عز وجل: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} (التحريم:4) أي: صالحو المؤمنين، فجاء بصيغة المفرد، والمراد الجمع.

ثالثاً: ذكر اللفظ المفرد والمراد به المثنى

جاء على وفق هذا الأسلوب التالي:

* قوله سبحانه على لسان بني إسرائيل: {وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد} (البقرة:61) وهما طعامان اثنان: (المن والسلوى) عبر عن الاثنين بلفظ الواحد.

* قوله عز وجل: {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد} (ق:17) أخبر عن الاثنين بلفظ الواحد، كأن كل واحد منهما قعيد.

* قوله سبحانه: {قال فمن ربكما يا موسى} (طه:49) خطاب الاثنين بلفظ الواحد؛ إذ المراد: {فمن ربكما يا موسى} أي: ويا هارون.

رابعاً: ذكر اللفظ المثنى والمراد به المفرد

جاء بحسب هذا الأسلوب ما يلي:

* قوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} (الرحمن:22) وإنما يخرج {اللؤلؤ والمرجان} من المالح دون العذب، فعبر عن الواحد بلفظ الاثنين.

* قوله عز وجل: {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد} (ق:24) الخطاب في الآية لمالك خازن النار، وهو واحد وجاء اللفظ بالتثنية، قال الطبري: "أخرج الأمر للقرين -وهو بلفظ واحد- مخرج خطاب الاثنين؛ وذلك أن العرب تأمر الواحد والجماعة بما تأمر به الاثنين".

خامساً: ذكر اللفظ الجمع والمراد به المثنى

من أمثلة هذا الأسلوب ما يأتي:

* قوله عز وجل: {ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى} (طه:130) فالجمع في قوله: {وأطراف النهار} من إطلاق اسم الجمع على المثنى؛ بدليل قوله سبحانه في آية أخرى: {وأقم الصلاة طرفي النهار} (هود:114). قال ابن عاشور: "والذي حسنه هنا مشاكلة الجمع للجمع في قوله {ومن آناء الليل}.

* قوله تبارك وتعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} (التحريم:4) لم يقل: فقد صغى قلباكما، مع أن الخطاب للمثنى، بل قال: {قلوبكما} قال القرطبي: "ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين، من اثنين جمعوهما". وقال ابن عاشور: "جاء بلفظ (قلوب) جمعاً مع أن المخاطب امرأتان، فلم يقل: قلباكما؛ تجنباً لتعدد صيغة المثنى".

* قوله سبحانه: {فاقطعوا أيديهما} (المائدة:38) ولم يقل: يديهما. والمراد: فاقطعوا يميناً من هذا، ويميناً من هذا. قال ابن عاشور: "الجمع هنا مراد منه التثنية".

من خلال الأمثلة المتقدمة يتبين أن أسلوب الخطاب القرآني متنوع ومتعدد، مراعاة للسامع والقارئ، وتنشيطاً للذهن والعقل، وتحفيزاً للتفكر والتأمل، ودفعاً للملل والسآمة، ولا غرو في ذلك فهو {تنزيل من حكيم حميد} (فصلت:42).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة