الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

{وإن الله على نصرهم لقدير}

{وإن الله على نصرهم لقدير}

{وإن الله على نصرهم لقدير}

روى النسائي والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما أُخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، قال أبو بكر رضي الله عنه: (أخرجوا نبيهم، لَيَهْلِكُنَّ)، فأنزل الله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} (الحج:39) فقال أبو بكر: (لقد علمت أنه سيكون قتال). قال الترمذي: هذا حديث حسن. ولنا مع هذه الآية القليلة الكلمات، العميقة الدلالات، وما وراءها من أسرار في عالم النفس وعالم الحياة ست وقفات:

الوقفة الأولى: قُرى قوله تعالى: {أذن} بضم الهمزة، أي: أُبيح للمستضعفين في الأرض أن يدفعوا عن أنفسهم عدوان الظالمين، وأن يدافعوا عن عقيدتهم وإيمانهم ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. وقرئ بفتح الهمزة، أي: أذن الله للمؤمنين بقتال أعدائهم الذين يقاتلونهم. وقرُئ {يقاتَلون} بفتح التاء، أي: يقاتلهم المشركون وهم المؤمنون. وقرئ قوله عز وجل: {يقاتِلون} بكسر التاء، أي: يقاتلون عدوهم. والقراءتان متواترتان، وقراءة حفص عن عاصم بضم همزة {أذن} على البناء لمجهول، وبفتح التاء من {يقاتَلون}. والذين {يقاتلون} مراد بهم المؤمنون على كلتا القراءتين؛ لأنهم إذا قوتلوا، فقد قاتلوا.

الوقفة الثانية: قال غير واحد من السلف: إن هذه أول آية نزلت في الجهاد، قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ وذلك أن المشركين كانوا يؤذون المؤمنين بمكة أذى شديداً، فكان المسلمون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج، يتظلمون إليه، فيقول لهم: (اصبروا، فإني لم أومر بالقتال)، فلما هاجر إلى المدينة، نزلت هذه الآية بعد بيعة العقبة؛ إذناً لهم بالتهيؤ للدفاع عن أنفسهم، ولم يكن قتال قبل ذلك، كما يؤذِن به قوله تعالى عقب هذا: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} (الحج:40).

الوقفة الثالثة: قوله عز وجل في ختام الآية: {وإن الله على نصرهم لقدير} قال ابن عاشور: "هذا وعد من الله بالنصر، وارد على سَنَن كلام العظيم المقتدر، بإيراد الوعد في صورة الإخبار، بأن ذلك بمحل العلم منه، كقولهم: عسى أن يكون كذا، أو أن عندنا خيراً، أو نحو ذلك، بحيث لا يبقى للمترقب شك في الفوز بمطلوبه" ونيل مراده. وقال الرازي: "{وإن الله على نصرهم لقدير} فذلك وعد منه تعالى بنصرهم، كما يقول المرء لغيره: إن أطعتني، فأنا قادر على مجازاتك، لا يعني بذلك القدرة، بل يريد أنه سيفعل ذلك".

الوقفة الرابعة: ثم ها هنا أمر ذو بال، وهو أنه سبحانه مع أنه قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، بيد أنه يريد من عباده أن يبلوا جهدهم في طاعته، كما قال سبحانه: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم} (محمد:4-6)، وقال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم} (التوبة:14-15)، وقال عز وجل: {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون} (التوبة:16)، وقال عز من قائل: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (آل عمران:142)، وقال تبارك وتعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} (محمد:31). والآيات في هذا المعنى كثيرة؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وإن الله على نصرهم لقدير} قال: وقد فعل، أي سبحانه نصر عباده يوم بدر، وغيره من الأيام.

الوقفة الخامسة: لسيد قطب رحمه الله كلام جميل في هذا المقام حيث قال: "إن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض، والمعركة مستمرة بين الخير والشر، والهدى والضلال، والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان، منذ أن خلق الله الإنسان. والشر جامح، والباطل مسلح، وهو يبطش غير متحرج، ويضرب غير متورع، ويملك أن يفتن الناس عن الخير، إن اهتدوا إليه، وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له، فلا بد للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش، وتقيها من الفتنة، وتحرسها من الأشواك والسموم.

ولم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير والحق عُزْلاً، تكافح قوى الطغيان والشر والباطل، اعتماداً على قوة الإيمان في النفوس، وتغلغل الحق في الفِطَر، وعمق الخير في القلوب؛ فالقوة المادية التي يملكها الباطل، قد تزلزل القلوب، وتفتن النفوس، وتزيغ الفِطَر، وللصبر حدٌّ، وللاحتمال أمد، وللطاقة البشرية مدى تنتهي إليه. والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم، ومن ثم لم يشأ سبحانه أن يترك المؤمنين للفتنة، إلا ريثما يستعدون للمقاومة، ويتهيؤون للدفاع، ويتمكنون من وسائل الجهاد، وعندئذ أذن لهم في القتال لرد العدوان.

فالباطل متبجح، لا يكف، ولا يقف عن العدوان، إلا أن يُدْفَع بمثل القوة التي يصول بها ويجول. ولا يكفي الحق أنه الحق ليقف عدوان الباطل عليه، بل لا بد من القوة تحميه، وتدفع عنه. وهي قاعدة كلية، لا تتبدل ما دام الإنسان هو الإنسان! حكمة الله في هذا هي العليا، ولله الحجة البالغة...والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة، ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا، أن الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من "التنابلة" الكسالى، الذين يجلسون في استرخاء، ثم يتنزل عليهم نصره سهلاً هيناً بلا عناء، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة، ويرتلون القرآن، ويتوجهون إلى الله بالدعاء، كلما مسهم الأذى، ووقع عليهم الاعتداء! نعم إنهم يجب أن يقيموا الصلاة، وأن يرتلوا القرآن، وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء والضراء، ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها، إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة، والذخيرة التي يدخرونها للموقعة، والسلاح الذي يطمئنون إليه، وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه، ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله.

لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم؛ كي يتم نضجهم هم في أثناء المعركة؛ فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها، كما تستيقظ وهي تواجه الخطر، وهي تدفع وتدافع، وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة. عندئذ تتحفز كل خلية بكل ما أُودع فيها من استعداد لتؤدي دورها، ولتتساند مع الخلايا الأخرى في العمليات المشتركة، ولتؤتي أقصى ما تملكه، وتبذل آخر ما تنطوي عليه، وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها، وما هي مهيأة له من الكمال.

والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها، واحتشاد كل قواها، وتوفز كل استعدادها، وتجمع كل طاقاتها؛ كي يتم نموها، ويكمل نضجها، وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها.

والنصر السريع الذي لا يكلف عناء، والذي يتنزل هيناً ليناً على القاعدين المستريحين، يعطل تلك الطاقات عن الظهور؛ لأنه لا يحفزها ولا يدعوها. وفوق ذلك، فإن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه؛ أولاً: لأنه رخيص الثمن، لم تبذل فيه تضحيات عزيزة. وثانياً: لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به، ولم تشحذ طاقاتهم، وتحشد لكسبه، فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه.

وهناك التربية الوجدانية والدربة العملية، تلك التي تنشأ من النصر والهزيمة، والكر والفر، والقوة والضعف، والتقدم والتقهقر، ومن المشاعر المصاحبة لها...من الأمل والألم...ومن الفرح والغم، ومن الاطمئنان والقلق. وكلها ضرورية للأمة، التي تحمل الدعوة، وتقوم عليها وعلى الناس.

من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله، جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا، يتم عن طريقهم هم أنفسهم، ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء". فالنصر كالرزق سواء بسواء، لا يأتي إلا بطلب أسبابه المنوطة بكسبه، والسعي في سبله المؤدية إلى تحصيله، سنة الله لا تتخلف ولا تتبدل".

الوقفة السادسة: تقدم أن (النصر) وعد من الله، والله لا يخلف الميعاد، غير أن نصر الله عباده قد يتأخر عنهم؛ وذلك لا يعني أن الله مخلف وعده عباده، بل على المؤمنين أن يوقنوا أن وراء تأخر النصر حكمة لا يعلمها غيره سبحانه.

على أن تأخر النصر إنما قد يكون لأسباب؛ فصلها سيد رحمه الله، قال:

قد يبطئ النصر؛ لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية، وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات. فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً؛ لعدم قدرتها على حمايته طويلاً، والحفاظ عليه!

وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً، لا تبذله هيناً رخيصاً في سبيل الله.

وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر، إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل الأمة آخر ما في طوقها، ثم تكل الأمر بعدها إلى الله.

وقد يبطئ النصر؛ لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل، ولا تجد لها سنداً إلا الله، ولا متوجَّهاً إلا إليه وحده. وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله.

وقد يبطئ النصر؛ لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها، أو تقاتل لحزب تؤيده، أو تقاتل لرايات دنيوية ترفعها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليُرَى، فأيها في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) متفق عليه، هذا هو المقصد الأول، وهذه هي الوجهة النهائية.

وقد يبطئ النصر؛ لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرد الشر منها؛ ليتمحض خالصاً، ويذهب وحده هالكاً، لا تتلبَّس به ذرة من خير، تذهب في الغمار!

وقد يبطئ النصر؛ لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة، لم ينكشف زيفه للناس تماماً، فلو غلبه المؤمنون حينئذ، فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء، الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل، حتى يتكشف عارياً للناس، ويذهب إلى مزابل التاريخ غير مأسوف عليه!

وقد يبطئ النصر؛ لأن البيئة لا تصلح بعدُ لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة؛ فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة، لا يستقر لها معها قرار، فيظل الصراع قائماً؛ حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر، ولاستبقائه!

من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا، وتحقيق النصر لهم في النهاية. {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (يوسف:21).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة