الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التفسير بالتمثيل

التفسير بالتمثيل

التفسير بالتمثيل

المتأمل في كتب التفسير -المتأخرة منها على وجه الخصوص- يجد أن المفسرين في تفسيرهم للمراد من بعض الآيات، أو الألفاظ القرآنية، ينقلون أقوالاً عديدة في المراد من هذا اللفظ، أو ذاك، أو في تحديد المراد من هذه الآية أو تلك، ويختارون قولاً من تلك الأقوال على أنه المراد من اللفظ أو الآية.

وهذا المسلك في عمومه غير متجه؛ وذلك أن ما ينقله بعض المفسرين على أنه أقوال في تحديد المراد، إنما هو في حقيقة الأمر تفسير بالمثال، فما هو المراد بهذا النوع من التفسير؟

نستبق القول بما يوضح الأمر، وذلك كالمنقول في المراد من الآيات الواردة في قيام الليل، نحو قوله سبحانه: {والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما} (الفرقان:64)، وقوله عز وجل: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} (السجدة:16)، وقوله تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما} (الزمر:9)، وقوله عز من قائل: {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون} (الذاريات:17)، فهذه الآيات ونحوها، التي صورت قيام الليل، يدخل فيها مرتبتان: قيام الفرض، كصلاة العشاء، وقيام النفل، كالتهجد...وبعض المفسرين يخطئ في حمل بعض هذه الآيات على أحد المرتبتين، وصحيح القول أنها تشمل المرتبتين، إلا أن بعض السلف يذكر أحد المرتبتين على سبيل (تفسير التمثيل) لا (تفسير الحصر والحد)، والأول هو المشهور عن سلف هذه الأمة.

وقد نبه على هذه القاعدة ابن عطية عند تفسيره لقوله تعالى: {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} (الذاريات:19)، فبعد أن نقل المراد بـ {المحروم} قال: "واختلف الناس في {المحروم} اختلافاً، هو عندي تخليط من المتأخرين؛ إذ المعنى واحد، وإنما عبر علماء السلف في ذلك بعبارات على جهة المثالات، فجعلها المتأخرون أقوالاً". ومن تعامل مع كتب المتأخرين في التفسير، كـ "زاد المسير" أدرك صواب عبارة ابن عطية وأهميتها.

وقد تأثر بعبارة ابن عطية ابنُ تيمية، واستثمرها، وقعَّد عليها قاعدة مهمة من قواعد التفسير، شرحها في مواضع متعددة من كتبه؛ من ذلك ما ذكره عند بيانه أن الاختلاف الثابت عن الصحابة، وعن أئمة التابعين في القرآن أكثره، لا يخرج عن وجوه: وذكر من تلك الوجوه: "أن يذكر كل منهم من تفسير (الاسم) بعض أنواعه، أو أعيانه على سبيل التمثيل للمخاطب؛ لا على سبيل الحصر والإحاطة، كما لو سأل أعجمي عن معنى لفظ (الخبز) فأُريَ رغيفاً، وقيل: هذا هو، فذاك مثال للخبز، وإشارة إلى جنسه؛ لا إلى ذلك الرغيف خاصة". ومثَّل لذلك من القرآن بقوله تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} (فاطر:32) قال: "فالقول الجامع أن (الظالم لنفسه) هو المفرط بترك مأمور، أو فعل محظور. و(المقتصد) القائم بأداء الواجبات، وترك المحرمات. و(السابق بالخيرات) بمنزلة المقرب، الذي يتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، حتى يحبه الحق. ثم إن كلاً منهم يذكر نوعاً من هذا؛ فإذا قال القائل: إن المراد بـ (الظالم) المؤخر للصلاة عن وقتها. والمراد بـ (المقتصد) المصلي لها في وقتها. والمراد بـ (السابق) المصلي لها في أول وقتها، حيث يكون التقديم أفضل. وينقل قول آخر: (الظالم لنفسه) هو البخيل الذي لا يصل رحمه، ولا يؤدي زكاة ماله. و(المقتصد) القائم بما يجب عليه من الزكاة، وصلة الرحم، وقِرَى الضيف، والإعطاء في النائبة. و(السابق) الفاعل المـُسْتَحَبَّ بعد الواجب، كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين جاء بماله كله؛ ولم يكن مع هذا يأخذ من أحد شيئاً. وينقل قولاً آخر، وهو أن المراد بـ (الظالم لنفسه) الذي يصوم عن الطعام لا عن الآثام. و(المقتصد) الذي يصوم عن الطعام والآثام. و(السابق) الذي يصوم عن كل ما لا يقربه إلى الله تعالى، وأمثال ذلك، لم تكن هذه الأقوال متنافية، بل كلٌّ ذكر نوعاً مما تناولته الآية.

ومن تأصيله لهذه القاعدة قوله أيضاً: "الخلاف بين السلف في التفسير قليل...وغالب ما يصح عنهم من الخلاف، يرجع إلى اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد؛ وذلك صنفان...ثم ذكر الصنف الثاني: وهو "أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه"، ومثَّل له أيضاً بالآية المتقدمة، إلى أن يقول: "فكل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية، ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له، وتنبيهه به على نظيره؛ فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطلق. والعقل السليم يتفطن للنوع".

ومن هذا الباب أيضاً -باب التفسير بالتمثيل- قول السلف: هذه الآية نزلت في كذا، لا سيما إن كان المذكور شخصاً؛ كقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت، وإن آية اللعان نزلت في عويمر العجلاني، أو هلال بن أمية، وأن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين. وأن قوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} (المائدة:49) نزلت في بني قريظة والنضير. وأن قوله: {ومن يولهم يومئذ دبره} (الأنفال:16) نزلت في بدر. وأن قوله: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} (المائدة:106) نزلت في قضية تميم الداري، وعدي بن بداء. وقول أبي أيوب رضي الله عنه: إن قوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (البقرة:195) نزلت فينا معشر الأنصار. ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من أهل الكتاب اليهود والنصارى. أو في قوم من المؤمنين.

فالذين قالوا ذلك، لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم؛ فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، ولم يقل أحد من علماء المسلمين: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص، فيعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ.

ومن أقوال ابن تيمية المؤصلة لهذه لقاعدة (التفسير بالتمثيل) قوله غير ما تقدم: "ومن الأقوال الموجودة عنهم -عن السلف- ويجعلها بعض الناس اختلافاً، أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة، لا مترادفة؛ فإن الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن، فإما نادر، وإما معدوم، وقلَّ أن يُعَبَّر عن لفظ واحد بلفظ واحد، يؤدي جميع معناه؛ بل يكون فيه تقريب لمعناه".

فهذا النوع من التفسير الذي يذكر فيه بعض المثالات، هو الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف، وليس الأمر كذلك.

ثم ها هنا بعض الأمثلة على هذا النوع من التفسير:

* قوله تبارك وتعالى: {الصراط المستقيم} (الفاتحة:6) فقال بعضهم: هو القرآن. وقال آخرون: هو الإسلام. وهناك من قال: هو السنة والجماعة. وقول يقول: هو طريق العبودية. وقول آخر: هو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك، فهذه ليست أقوالاً متعددة في تحديد المراد من {الصراط المستقيم}، وإنما هي أمثلة نوعية، يندرج تحتها كل ما يشمله هذا النوع، وقائل كل قول منها إنما أراد المثال لا الحصر.

* قوله سبحانه: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} (المائدة:54) فقد نُقل عن السلف أقوال في المراد من (القوم) الذين أتى الله بهم المؤمنين، وأبدل المؤمنين مكان من ارتد منهم؛ فقيل: أبو بكر الصديق وأصحابه رضي الله عنهم، الذين قاتلوا أهل الردة. وقيل: قوم أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وقيل: أهل اليمن. وقيل: هم الأنصار. وقيل غير ذلك. وليس مراد القائلين بقول من هذه الأقوال حصرَ مراد الآية به، بل قالوا ما قالوه على سبيل المثال لا الحصر.

* قوله عز وجل: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} (الكهف:46) فبعضهم يقول: إن المراد بـ {الباقيات الصالحات} قول: لا إله إلا الله. وبعضهم يقول: سبحان الله والحمد لله. وبعضهم يقول: الصلوات الخمس. وقيل: إنها كل عمل صالح من قول، أو فعل، يبقى للآخرة، وقيل غير ذلك. وليس المراد من هذه الأقوال قولاً بعينه، بل مراد أئمة السلف التمثيل لـ {الباقيات الصالحات} لا التفسير الحاصر لمعناها.

* قوله تعالى: {ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد} (الفتح:16) فقد نُقل عن السلف في المراد من (القوم) أنهم: فارس. وقيل: إنهم الروم. وقيل: هوازن وثقيف. وقيل: أهل اليمامة. وقيل غير ذلك. والحق، فإن كل هذه الأقوال المنقولة عن السلف، إنما هي من باب تفسير التمثيل، وليس المراد منها الحصر والتحديد.

* قوله سبحانه: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} (الجمعة:3) فقد نُقل عن السلف أقوال في المراد بـ (الآخرين) فقيل: من أبناء فارس. وقال عكرمة: هم التابعون. وقال مجاهد: هم الناس كلهم. وقال ابن زيد ومقاتل ابن حيان: هم من دخل في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. فهذه الأقوال المنقولة عن السلف في المراد من {وآخرين منهم} ليست أقوالاً مراداً بها الحصر، وإنما قيلت على سبيل المثال؛ لذلك قال ابن عاشور بعد ذكر بعض هذه الأقوال: "والذي يلوح أنه تفسير بالجزئي على وجه المثال؛ ليفيد أن {آخرين} صادق على أمم كثيرة، منها أمة فارس، وأما شموله لقبائل العرب فهو بالأولى؛ لأنهم مما شملهم لفظ الأميين".

* قوله تعالى: {وشاهد ومشهود} (البروج:3) نُقل عن السلف في المراد من (الشاهد) أقوال: فقيل: (الشاهد) يوم الجمعة، و(المشهود) يوم عرفة. وقيل: (الشاهد) يوم التروية، و(المشهود) يوم عرفة. وقيل: (الشاهد) يوم عرفة، و(المشهود) يوم النحر. وقيل: (الشاهد) هذه الأمة، و(المشهود) سائر الأمم. وقيل: (الشاهد) الحفظة، و(المشهود) بنو آدم. وقيل غير ذلك. وكل هذه الأقوال مراد بها النوع، لا التحديد الحصري والحدي.

* قوله عز وجل: {وأما بنعمة ربك فحدث} (الضحى:11) نُقل في المراد بـ (النعمة) القرآن. وقيل: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: إذا أصبت خيراً، أو عملت خيراً، فحدِّث به الثقة من إخوانك. فليس المراد {بنعمة ربك} نعمة خاصة، وإنما أريد الجنس؛ فيفيد عموماً.

* قوله عز من قائل: {والذي قدر فهدى} (الأعلى:3) نُقل في المراد بـ (الهداية) هنا أقوال؛ فقيل: هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي. وقيل: هدى الناس للخير والشر والبهائم للمراتع. وقيل: قدَّر الأرزاق، وهدى إلى طلبها. وقيل: قدَّر مدة الجنين في الرحم، ثم هداه للخروج. وقيل غير ذلك. قال ابن عطية بعد أن ذكر هذه الأقوال: "وهذه الأقوال مثالات، والعموم في الآية أصوب في كل تقدير، وفي كل هداية".

وهكذا كثير من تفسير السلف يذكرون من النوع مثالاً؛ لينبهوا به على غيره، أو لحاجة المستمع إلى معرفته، أو لكونه هو الذي يعرفه.

فتحصل أن التفسير بالمثال، أو تفسير التمثيل، والاختلاف فيه يعود إلى قول واحد، وإنما ورد الاختلاف بين السلف بسبب أنهم عمدوا إلى ذكر أمثلة للمعنى العام، ولم يقصدوا حصر المراد بالمثال الذي ذكروه.

ومن أدرك قاعدة (تفسير التمثيل)، واستوعبها جيداً، ضاق أمامه الخلاف في التفسير، وميز بين اختلاف الأقوال، واختلاف الأمثلة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة