الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

محاسن عقوبة الزنا (1) الأحكام والضوابط

محاسن عقوبة الزنا (1) الأحكام والضوابط

محاسن عقوبة الزنا (1) الأحكام والضوابط

ينظر الإسلام إلى عقوبة الزنا باعتبارها إحدى أبشع الجرائم التي يقارفها الإنسان؛ وذلك للمآلات المدمرة التي تترتب على شيوعها بين الأفراد أو المجتمعات، من اختلاط للأنساب، وشيوع للفواحش، وانتشار للأسقام والأمراض...

وقد عالج الإسلام فشو الزنا بسبل شتى، وتذرع لها بوسائل عدة؛ ومن ذلك الردع بالعقوبة لكل من تسول له نفسه الإقدام على هذا المنكر القميء، وضبط ذلك بمجموعة من الأحكام التي تحقق مقاصد العقوبة، وتعصمها من الشطط أو الخلل.

فمن المعلوم من الدين بالضرورة تحريم الزنا وتغليظ العقوبة في حق مرتكبها، وقد ميز الشارع الحكيم بين نوعين من الزناة:

الأول: الزاني غير المحصن: وهو الذي لم يسبق له أن تزوج، وعقوبته جلد مائة بمنطوق القرآن الكريم: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة) (النور: 2)، وزادته السنة عقوبة أخرى وهي التغريب، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: (البكر بالبكر؛ جلد مائة وتغريب عام) رواه مسلم.

الثاني: الزاني المحصن: عقوبته الرجم؛ لما ثبت في السنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، من ذلك قوله: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) متفق عليه، ومنها قصة العسيف الذي زنى بامرأة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل من أسلم: (واغد يا أُنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فرجمها) متفق عليه (1).

ومن خلال عرض تعريف الزنا ستتبين لنا جملة من ضوابط إنفاذ العقوبة، فقد عرفه عدد من الأحناف بالقول: "هو وطء الرجل المرأة الحية المشتهاة في القبل في حالة الاختيار ممن التزم أحكام الإسلام من غير شبهة". وعرفه المالكية بقولهم: " وطء مكلف فرج آدمي باتفاق تعمدا"، وعرفه الشافعية بـ: "إيلاج الذكر بفرج محرم لعينه خالٍ من الشبهة، مشتهى طبعا"(2).

والمتأمل في هذه التعاريف يلاحظ اتفاقَها جميعا على أن الزنا هو الوطء المحرم الحاصل عن طريق العمد، كما يلاحظ اشتراط التكليف وإيلاج فرج في فرج في غير شبهة باتفاق.

إن الكثيرين من مناوئي تطبيق الشريعة يفترضون في أذهانهم أن إقامة حد الزنا سيجعل أعداد المحدودين تتكاثر باطراد، وبالتالي نشوء أكثرية من المعاقين والعاجزين في المجتمع، ومَرَدُّ هذا الوهم بالأساس هو وقوعهم فريسة الجهل بالضوابط التي وضعتها الشريعة لإقامة حد الزنا، وقد قيل: من جهل شيئا عاداه.

ومن ثم؛ فإننا سنورد بعض الشروط والضوابط التي تسبق إقامة حد الزنا، والتي تسيجه بجملة من الاحتياطات؛ عملا بمبدأ درء الحدود بالشبهات، بحيث لا يقام الحد إلا بعد التيقن من وقوع الجريمة:

1- طريقة الإثبات: يثبت الزنا بأحد طريقين؛ إما الإقرار من الفاعل؛ والإقرار سيد الأدلة، وإما بشهادة أربعة شهود عدول من الرجال، عملا بقول الله تعالى: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} (النور: 13)، وقوله جل وعلا: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} (النساء:15)، وهذا من تشديد الإسلام في قضايا العرض، فلم يشترط أربعة شهود إلا عندما تعلق الأمر بجريمة الزنا، أما في سواها فيكتفي بشاهدين اثنين فقط.

كما يشترط في الشهادة أن يكون الشهود جميعاً قد "رأوا عملية الزنا كالمِــــيل في المكحلة، والرشاء (الحبل) في البئر، وهذا مما يصعب ثبوته. ولو فرض أن ثلاثة منهم شهدوا بهذه الشهادة، وشهد رابع بخلاف شهادتهم، أو رجع أحدهم؛ أُقيم عليهم حد القذف. فهذا الاحتياط الذي وضعه الإسلام في إثبات هذه الجريمة، مما يدفع ثبوتها قطعا، فهي إلى الإرهاب والتخويف أقرب منها إلى التحقيق والتنفيذ"(3).

2- الوطء المحرم: الوطء المعتبر زنا: هو الوطء في الفرج، بحيث يكون الذكر في الفرج، ويكفي لاعتبار الوطء زنا أن تغيب الحشفة (مقدمة ذكر الرجل) على الأقل في الفرج، فتكون الجريمة مكتملة إذا وقع الإيلاج ويقام الحد ساعتئذ (4).

3- القصد الجنائي: يجب أن يتوفر في حق كل من الزاني والزانية عنصرا العمد وهما: العلم والإرادة، والمقصود بالعلم؛ أن يكون عارفا بكون الزنا محرما، والأصل في ذلك أنه لا يحتج في دار الإسلام بجهل الأحكام، فلا يقبل من المسلم أن يحتج بجهل تحريم الزنا وبالتالي انعدام القصد الجنائي لديه؛ لأن ذلك من المعلوم من الدين بالضرورة، كما يندرج تحت العلم؛ أن يكون عالما أنه يطء امرأة محرمة عليه، وهي تعلم أن من يجامعها محرم عليها. والشق الثاني للقصد الجنائي هو الإرادة، فإذا انتفت الإرادة الحرة فلا وجود للقصد(5). ومن ثم؛ فلا حد على من كان أُكره على الزنا، ذكرا كان أو أنثى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه مسلم ، وعن وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال: (استكرهت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد وأقامه على الذي أصابها) رواه الترمذي.

ولا يؤثر في إيقاع عقوبة الزنا؛ أن كان ذلك باتفاق الرجل والمرأة على ذلك، خلافا للقوانين الوضعية التي تعفي الزناة من العقوبة إذا ما تم بذلك برضا الطرفين.

يتضح من خلال ما تم عرضه من ضوابط وقيود أن الإسلام وهو يسعى إلى تحقيق الزجر عن الزنا، لم يغفل شروط الإثبات والتنفيذ معا، فأحاط ذلك كله بسياج متين من الاحتياط في إيقاع العقوبة.

هوامش المقال:
( ) الفقه الإسلامي وأدلته: ج6 ص 40-41.
(2) التشريع الجنائي الإسلامي، محمد المدني بوساق: ص 23.
(3) فقه السنة، سيد سابق: ج2 ص 257.
(4) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة: ج2 ص 350.
(5) التشريع الجنائي الإسلامي، نجاتي سيد أحمد: ص 202.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة