![]() ![]() إشكال في فهم الغاية من الخلق2016-10-09 10:37:23| الشبكة الإسلامية
هذه الغاية المحبوبة لله سبحانه والمرضية له والتي عبّرت عنها الآية الكريمة، قد أشكل فهمها على بعض الناس قديماً وحديثاً، وتمثّل وجه الإشكال عندهم في ملاحظة أسلوب القصْرِ في الآية، بمعنى أنها جعلت السبب الأوحد لخلق الثقلين في العبادة، ثم اضطرابهم في فهم دلالة الفعل المذكورِ في الآية {ليعبدون}، فإذا كان السببُ في خلق الجن والإنس وإيجادهم هو العبادة، ومع ذلك نرى في الواقع من يستنكفُ عن هذه العبادة ويستكبر عن الإيمان، فكيفَ وقع الكفرُ منهم بالرغم من كونِهم وُجدوا للعبادة؟ وكان هذا التساؤل سبباً لضلال القدريّة –وهم الذين ينفون القدر- وذلك حين لم يفهموا كيف يخلق الله الخلق لغاية، مع علمه أنها لا تحصل؟ أو كما عبّر عنها الإمام الثعلبي نقلاً عنهم: " كيف كفروا، وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته؟" وهو الأمر الذي دعاهم إلى إنكار أن يكون ما صدر من المعاصي والكفر داخلاً تحت مشيئة الله وقدره. وللإجابة عن هذا اللبس الحاصل عند القدريّة وعند غيرِهم، ينبغي تسليط الضوء على عدّة أمورٍ، هي بمثابة مفاتيح يحصل بمجموعها التصوّر الصحيح للمسألة: والعبادة المقصودة هنا هي العبادة الشرعية التي هي مقتضى التكليف، وهي الاسم الجامع لكل ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، والتي جاء بها خطاب الشارع سبحانه. وهذا المعنى والتصوّر يُعتبر الأدقّ والأشمل من بين التفسيرات التي ذكرها المفسّرون في معنى الآية الكريمة. ومما يُستند إليه في هذا التفسير قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إلا ليعبدون. أي: "إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي" ويؤيده قوله عز وجل: {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا} (التوبة: 31)، وقول مجاهد: "يعني: ما خلقتهم إلا لآمرهم، وأنهاهم"، وقال الواحدي في الوجيز: " {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أي: إلا لآمرهم بعبادتي وأدعوهم إليها"، وبنحوِه قال البغوي وابن كثير. وليس المراد من الآية وقوع الفعل، لأن الفعل المذكور في الآية {يعبدون} قُصِدَ به إرادة الفعل –حدوث العبادة من الناس ومحبّتها- لا وقوعه، وبهذا المعنى يقول السمرقندي: " يعني: ما خلقتهم، إلا أمرتهم بالعبادة، فلو أنهم خلقوا للعبادة لما عصوا طرفة عين" ومقصودُ قولِه أن الله سبحانه لو شاء لأجبر خلقَه لعبادته، فلا رادّ لقضائه، وهو القاهر فوق عبادِه، ولكنّه أراد من خلقِه العبوديّة ودعاهم إليها، فمن أطاع استحقّ الثواب، ومن عصا استحقّ العقاب. ولو عدنا إلى كلام اللغوين وجدنا أن ابن هشام في كتابه "مغني اللبيب" ذكر أن العرب يعبّرون عن الفعل بعدّة أمور: أولاً: وقوع الفعل، وهو الأصل، ومثالُه أن نقول: ذهبتُ إلى الجامعةِ وشربتُ كأساً من الشاي. فالفعلُ هنا قد وقع، وهو المراد من القائل. ثانياً: مشارفة وقوع الفعل، أي أن الفعل على وشك الحدوث، مثالُه قولُه تعالى:{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن} (البقرة: 231)، أي: فشارفن انقضاء العدة، وقولُه تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم} (البقرة: 240)، أي: والذين يوشكون على الموت. ثالثاً:إرادة الفعل، ومثلُه قول الحق سبحانه: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} (النحل:98)، أي: فإذا أردت قراءة القرآن، وقولُه سبحانه: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} (المائدة:6)، بمعنى: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وقولِه سبحانه: {إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن} (آل عمران:47)، أي: إذا أراد أن يقضي أمراً، ومثلُها كذلك: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} (النحل:126)، إذا جعلتها تعبيراً عن وقوع الفعل ولم تجعلها تعبيراً عن إرادتِه اختلّ المعنى بالكليّة، وأما من كلام العرب:
وحين نعود إلى الآية ونتساءل: في أي الاستعمالات الأربعة تندرج الآية؟ سنجدُ أن المتعيّن هو: الثالث، لدلالة السياق عليه، ولننظر إلى الآية التي تليها: {ما أريد منهم من رزقٍ وما أريد أن يطعمون} فقد علّق فعل الرزق والإطعام بالإرادة، مما يدلّ على أن الفعل{يعبدون} قُصد به إرادة الفعل، كأنّه يقول : أريد منهم أن يعبدونِ ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. والآية لا تحتمل غرضَ الوقوع، لأن أكثر الخلق لم تقع منهم عبادة الله: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} (يوسف:103)، والسورة كلّها تعريضٌ وتنديد بسلوك الكافرين حين خرجوا عن مقتضى العبودية، ولا الغّرض الثاني –المشارفة على الوقوع- لعدم مناسبتِه للمعنى، ولا الرابع؛ لأن الله تعالى وإن كان قادراً على جعل الخلق كلهم عابدين له إلا أنه لم يشأ أن يهديهم أجمعين: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} (يونس: 99)، فلم يبقَ إلا الثالث، وهو إرادة وقوع الفعل. وانظر إلى قول الكفوي في الكليات: "وما وصف بكونه مرادا بلا وقوع له فليس المراد به إلا إرادة التكليف به فقط... وليس المراد بقوله تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقوع العبادة بل الأمر بها". فإذا أدركت ذلك، واستحضرت الفرق بين الإرادة الشرعيّة والإرادة الكونيّة، أدركتَ وجهاً آخر لأسباب الضلال في فهم هذه الآية، فإن الله يحب من عبادِه أن يعبدوه، وهو مقتضى الإرادة الشرعيّة، والتي قد تقع وقد لا تقع، بخلاف الإرادة الكونيّة حتميّة الوقوع، وهذه الإرادة هي المطابقة لقولنا ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، أي لا يقع في الكون خير أو شر إلا بمشيئة الله. وبما تقدم تعلم أن وجود كفار غير عابدين لا يتعارض مع ما قررته الآية؛ إذ الآية قررت أن الغاية من الخلق التي يجب أن يتجه إليها المخلوقون هي عبادة الله دون سواه، وليس فيها أن المخلوقين كلهم سيحصل منهم هذه الغاية وبالله التوفيق.
1431 هـ©Islamweb.netجميع حقوق النشر محفوظة
|