الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من دلائل النبوة في القرآن والسيرة النبوية

من دلائل النبوة في القرآن والسيرة النبوية

من دلائل النبوة في القرآن والسيرة النبوية

عِلْم الغيب مختص بالله عز وجل وحده، قال الله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}(النمل: 65), وقال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}(الأنعام: 59)، وكما جاءت الأدلة والآيات القرآنية تدل على أن الله تعالى اختص بعلم الغيب، وأنه استأثر به دون خلقه، جاءت آيات أخرى تفيد أنه سبحانه استثنى من خلقه من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم، ودلالة على نبوتهم وصدقهم، قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}(الجـن:26: 27).

ومن دلائل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ما جاء من إخباره عن أحداث وأمور غيبية ستقَع في المستقبل، سواء في حياته أو بعد مَماته، ووقعت كما أخبر بها. والقرآن الكريم والسيرة النبوية فيهما الكثير من هذه الدلائل والنبؤات، وهذا دليل على أن الله عز وجل قد أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على أمور من علم الغيب، الذي لا يُمكِن الوصول إليها إلا بوحي من الله سبحانه.

دلائل نبوية من القرآن الكريم:
ـ إخبار القرآن الكريم عن غلبة الروم للفرس خلال بضع سنين كما جاء في سورة الروم، وكان ذلك في أول مبعثه صلى الله عليه وسلم حين كان في مكة، فكان هذا الإخبار من الآيات والدلائل على صدقه ونبوته، وأنه رسول الله حقاً، لوقوع الأمر كما أخبر الله تعالى به رسوله في كتابه العظيم، وقد فرح المسلمون بذلك، لأن الروم وهم نصارى أهل كتاب (الإنجيل)، أقرب إلى المسلمين من الفرس عباد الأوثان، قال الله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}(الروم 5:1). وكلمة "بِضع" في اللغة تدل على ما بين ثلاث وتسع، وقد جاء انتصار الروم على الفرس بعد سبع سنين من نزول الآية.
وعن نيار بن مكرم الأسلمي رضي الله عنه قال: (لمَّا نزلت: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} كانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنَهم وإياهم أَهل كتاب، وفي ذلك قول الله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، وكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأَهل كتاب ولا إيمان ببعثٍ، فلمّا أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكرٍ الصّديق يصيح في نواحي مكة: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ}، قال ناسٌ من قريش لأبي بكر فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبُك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفَلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى ـ وذلك قبل تحريم الرِّهان ـ، فارتَهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرِّهان وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع، ثلاث سنين إلى تسع سنين؟ فسَمِّ بيننا وبينك وسطا تنتهي إليه، قال: فسمُّوا بينهم سِتَّ سنين. قال: فمَضَتِ الستُّ سنين قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رَهن أبي بكر، فلما دخَلَتِ السّنة السابعة ظهرَتِ الروم على فارس فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ستّ سنين، قال: لأن الله تعالى قال: في بِضع سنين. قال: وأسلَمَ عند ذلك ناسٌ كثير) رواه الترمذي وحسنه الألباني. وفي رواية أخرى صححها الألباني: (فجعل أجل خمس سنين فلم يظهروا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال:ألا جعلته إلى دون ـ قال: أراه العشر ـ، قال أبو سعيد: والبضع ما دون العشر، قال: ثم ظهرت الروم بعد، قال: فذلك قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} إلى قوله {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ}، قال سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر). قال ابن كثير: "هذا الذي أخبرناك به - يا محمد - مِن أنا سننصر الروم على فارس وعد من الله حق، وخَبَر صدق لا يُخلف، ولا بد من كونه ووقوعه"، وقال السعدي: "وهذا من الأمور الغيبية التي أخبر بها اللّه قبل وقوعها ووُجِدَت في زمان من أخبرهم اللّه بها من المسلمين والمشركين".

ـ إخبار القرآن الكريم عن انتصار المسلمين في غزوة بدر قبل وقوعها، قال الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}(القمر:46:44)، قال القرطبي: "وهذا مِن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر"، وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قُبَّةٍ له يوم بدر: (أَنشُدُك عهدك ووعدَك، اللهمَّ إن شئتَ لم تُعبَدْ بعد اليوم أبدا. فأخَذ أبو بكر بيده وقال: حسبُك يا رسول الله، فقد ألحَحْتَ على ربك، وهو في الدِّرع، فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرّ}) رواه البخاري.

ـ دخول المسلمين المسجدَ الحرام محلِّقين رؤوسهم في قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ}(الفتح: 27)، فدخَلُوه بعد سنة معتمرين، ودخلوه بعد سنتين فاتحين، وذلك كله من دلائل صدقه ونبوته صلوات الله وسلامه عليه.

دلائل نبوية من السيرة والأحاديث النبوية:
كما أن القرآن الكريم فيه الكثير من الأخبار عن أمور غيبية مستقبَلة وقعت كما أخبر بها، فكذلك السيرة والأحاديث النبوية فيها الكثير من الأمور الغيبية المستقبلية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ووقعت كما أخبر بها، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:

ـ إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح مصر ودخولها في الإسلام بقوله لأصحابه: (إنكم ستفتحون مصر) رواه مسلم، قال النووي: "وفيه: معجزات ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه و سلم، منها إخباره بأن الأمة تكون لهم قوة وشوكة بعده بحيث يقهرون العجم والجبابرة، ومنها أنهم يفتحون مصر".
ـ إخباره أن ابنته فاطمة رضي الله عنها أول أهله لحوقاً به، وذلك لقوله لفاطمة رضي الله عنها: (وَإِنَّكِ أَوَّل أَهْلي لُحُوقاً بي، ونِعْمَ السَّلَف أنا لَكِ) رواه البخاري، فتوفيت بعد أقل من ستة أشهر من وفاته، قال ابن حجر: "وفي الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم بما سيقع، فوقع كما قال، فإنهم اتفقوا على أن فاطمة عليها السلام كانت أول مَن مات مِن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بعده حتى مِن أزواجه".
ـ إخباره صلى الله عليه وسلم أن أسرع أزواجه لحوقاً به بعد موته أطولهن يدا، فكانت زينب رضي الله عنها لطول يدها بالصدقة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسرعكن لحاقاً بي أطولكنَّ يداً، قالت: فكنَّ يتطاولن أيتهنَّ أطول يداً، قالت: فكانت أطولنا يداً زينب، لأنها كانت تعمل بيدها وَتَصَدَّق) رواه البخاري، قال الذهبي: "وإنما عني بطول يدها بالمعروف، إذ كانت رضي الله عنها سخية، كثيرة الصدقة والبذل وصلة الرحم".
ـ ومن ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم عن عمر وعثمان وعلي وطلحة رضي الله عنهم بأنهم سيموتوا شهداء، فعن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء، هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اهدأ، فما عليك إلا نبي، أو صِدِّيق، أو شهيد) رواه مسلم. قال النووي: "وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها: إخباره أن هؤلاء شهداء، وماتوا كلهم غير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر شهداء، فإن عمر وعثمان وعليّاً وطلحة والزبير رضي الله عنهم قُتِلوا ظلما شهداء".
ـ إخباره صلوات الله وسلامه عليه عن مصارع الطغاة وصناديد قريش في بدر قبل المعركة، فعن أنس رضي الله عنه: (كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال، وكنت رجلا حديد البصر، فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري، قال فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟ فجعل يقول لا يراه، قال: يقول عمر: سأراه وأنا مستلقٍ على فراشي.. ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس، يقول: هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، قال: فقال عمر: فو الذي بعثه بالحق ما أخطؤوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.

ما جاء في القرآن الكريم، وما جاء على لسان رسولنا صلى الله عليه وسلم، من الإخبار عن أمور غيبية مستقبلية، ووقعت كما أخبر بها: وحي من الله تعالى، للدلالة على صدقه ونبوته صلوات الله وسلامه عليه، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النَّجم: 3 : 4). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اكتب، فوالذي نفسي بيده، ما خرج مني إلا حق) رواه أحمد وأبو داود.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة