الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإيمان قبل القرآن

الإيمان قبل القرآن

الإيمان قبل القرآن

كانت الدنيا مظلمة، كالحة الوجه، مقطبة الجبين، قاسية القلب، قد بلغت من الحقارة والقذارة والسوء ما جعل الله يمقت أهلها جميعا عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب كما جاء في صحيح مسلم :"إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم جميعا عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب".

كان الناس يعبدون الحجارة والرمال، والنخيل، والشمس والقمر والنجوم والكواكب، والجن والملائكة، ويئدون البنات أحياء، ويشربون الخمر، ويأتون الفواحش، ويأكل القوي منهم الضعيف.. يطعم أحدهم كلبه ويقتل ولده.

حال الناس يجمعه ثلاث كلمات: وثنية فاحشة، وشهوات جامحة، وطبقية مجحفة.
كل ذلك ظهر واضحا في وصف جعفر بن أبي طالب عندما ذهب مهاجرا مع من هاجر للحبشة، وأرسلت قريش لتستعيدهم وتستعدي النجاشي عليهم، فقال له جعفر:
"أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام- فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا.

ما الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لينقلهم هذه النقلة الكبيرة العظيمة، ما هو السحر الذي قلبهم به من هذه الحال إلى الحال التي أصبحوا عليها؟ ما الذي فعله فيهم ليحولهم من وضعهم الذي كانوا عليه ليصبحوا خير أمة أخرجت للناس؟

إنها كلمة واحدة.. لقد علمهم الإيمان.. نعم علمهم الإيمان.
كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: "عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن"(رواه الحاكم والبيهقي).

ورى ابن ماجة عن جندب بن عبدالله قال: "كنَّا معَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ونحنُ فتيانٌ حزاورةٌ، فتعلَّمنا الإيمانَ قبلَ أن نتعلَّمَ القرآنَ، ثمَّ تعلَّمنا القرآنَ فازددنا بِه إيمانًا"(صحيح ابن ماجه).

لقد عرفهم بربهم، ودعاهم إليه، وحببه إليهم، وحببهم فيه، حتى كان أحب إليهم من أموالهم وأولادهم وأزواجهم، بل ومن أرواحهم التي بين جنوبهم.

علمهم الإيمان فأشرقت شمسه على ظلمة القلوب فأنارتها وأضاءتها.. ونفخت روح الإيمان في هذه الأرواح الفاسدة الكاسدة والقلوب الميتة فأحيتها وبعثتها.. وهطلت أمطار الإيمان على أرض القلب القاحلة فهزتها وأنبتتها وأثمرتها.

علمهم الإيمان فكان تهيئة للنفوس لقبول الغرس كما تهيأ الأرض للزراعة، والقرآن كالغيث ينزل عليها فتنبت من كل زهر الربيع.. وأما الأرض القاحلة الأجادب فإنها لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً.
يبين ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: "إنما نَزَلَ أولَّ ما نزَلَ من القرآن سورةٌ مِن المُفَصَّلِ، فيها ذكرُ الجنةِ والنارِ، حتى إذا ثابَ الناسُ إلى الإسلامِ نزَلَ الحلالُ والحرامُ، ولو نزَلَ أولُّ شيءٍ: لا تشربوا الخمرَ؛ لَقالوا: لا نَدَعُ الخمرَ أبدًا، ولو نزَل: لا تَزْنُوا، لقالوا: لا نَدَعُ الزنا أبدًا. لقد نزَلَ بمكةَ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم وإني لجاريةٌ ألعَبُ: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر}. وما نزَلَتْ سورةُ البقرةِ والنساءِ إلا وأنا عندَه".(رواه البخاري).

لماذا الإيمان أولا؟
الإيمان روح تبعث على العمل:
إذا تعلم الإنسان الإيمان تحرك في الكون ليبني ويعمر ويثمر، ويتفاعل ويسعى ويتحرك ويضرب في الأرض بناء للكون، وإعمارا للدنيا، وخدمة للناس، وتفاعلا مع الخلق رأفة بهم ورحمة وعملا على معاونتهم وإسعادهم؛ ففي حديث أبي ذر: قلتُ: يا رسولَ الله ماذا ينجِّي العبدَ من النار؟ قال: الإيمانُ بالله، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ مع الإيمان عملًا؟ قال: يرضَخُ مما رزقه الله، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ إن كان فقيرًا لا يجِدُ ما يرضَخُ به؟! قال: يأمرُ بالمعروفِ وينهى عن المُنكَر، قال: قلتُ: يا رسولَ الله أرأيتَ إن كان عيِيًّا لا يستطيعُ أن يأمُرَ بالمعروفِ و[لا] ينهى عن المنكَرِ؟! قال: يصنَعُ لأخرقَ، قلتُ: أرأيتَ إن كان أخرَقَ لا يستطيعُ أن يصنع شيئًا؟! قال: يُعينُ مغلوبًا، قلتُ: أرأيتَ إن كان ضعيفًا لا يستطيعُ أن يُعينَ مغلوبًا؟! قال: ما تريد أن تترُكَ في صاحِبِك من خيرٍ! يُمسِكُ عن أذى النَّاسِ، فقلتُ: يا رسولَ الله إذا فعل ذلك دخل الجنَّةَ، قال: ما من مسلمٍ يفعَلُ خصلةً مِن هؤلاء إلا أخَذَتْ بِيَدِه حتى تُدخِلَه الجنَّةَ.

الإيمان نور يضيء الجوانب المظلمة في النفس الإنسانية فتنير هي لصاحبها كل شيء:
لقد كان عمر يعذب المؤمنات حتى يكل ذراعه، ثم لما أسلم إذا به ينفخ النار بنفسه ليطعم أبناء المرأة المسلمة، ويحمل على ظهره الطعام للغريب وزوجته التي في المخاض.

الإيمان جنة تحمي صاحبها من الزلل والعلل:
تحميه من شهوات النفوس، ومحبوبات القلوب؛ وتحفظه من الميل الجائر إلى الدنيا؛ هذا عامر بن قيس، حينما جمعوا الأقباض (يعني الغنائم) في المدائن، أتى بشيء لما رآه المسلمون هالهم روعته وجماله وغلاؤه؛ فقالوا: أما أخذت منه شيئا؟ فقال: والله لولا الله لما جئتكم به. فأرادوا أن يعرفوه فقال: والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني، ولكن أحمد الله وأرضى ثوابه. فلما ولى بعثوا خلفه من يتعرف عليه فكان عامر بن عبد قيس.

فضالة بن عمير بن الملوح: أتى النبي صلى الله عليه سلم فأسلم: وكانت امرأة قبل إسلامه يسمر معها ويحادثها.. فلما أسلم رجع فمر بها في طريقه. فقالت: هلم إلى الحديث!! فقال: لا. وانبعث يقول:
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا .. .. يـأبى علــيك الله والإســـلام
لومــا رأيت محمـــدا وقبــيله .. .. بالفتــح يوم تكســر الأصـنام
لرأيت ديـن الله أضــحى بيـنا .. ..والشرك يغشى وجهه الإظلام

الإيمان ضمير يردع عن النقائص والمعايب في الخلوات والجلوات:
قال محمد بن إسحاق: "نزل السَّرِيُّ بن دينار في درب بمصر، وكانت فيه امرأة جميلة فتنت الناس بجمالها، فعلمت به المرأة، فقالت: لأفتنّنه؛ فلما دخلت من باب الدار تكشفت وأظهرت نفسها، فقال: مَالَكِ؟! فقالت: هل لك في فراش وطي، وعيش رخي؟ فجعل يدفعها إلى خارج البيت ويبكي ويقول:
وكم من معاص نال لذتـها الفتى .. .. فمــات وخــلاها وذاق الدواهــيا
تمـر لذاذات المعاصي وتنقضي .. ..وتبقى تباعات المعاصي كما هي
فــيا ســوأتا والله راء وســـامع .. .. لعبــد بعــين لله يغــشى المعاصيا

الإيمان قهر لهوى النفس، وكبح لجماح نخوتها إلا لله:
لقد كان هؤلاء القوم في الجاهلية يتمدحون بالعزة ويشتهرون بالأنفة، ولا يقبلون الضيم، ولا يرضون بالذلة والمهانة، بل كان الحروب الطوال تقوم بينهم لأتفه سبب ولأقل إحساس بالإهانة.. حرب داحس والغبراء بقيت قائمة بين عبس وذبيان أربعين سنة بسبب سباق للخيل حدثت فيه خدعة لأحد المتسابقين.. وحرب البسوس دامت كذلك أربعين سنة بين ابني بكر بن وائل بسبب ناقة قتلت.. ووقائع الأوس والخزرج بقيت ستين سنة على فترات متقطعة.

أمة تكره الضيم، وتأبي الذل، وتعشق القتال والحرب حتى كأنها ولدت وفي يدها السيف.. هذه النوعية من البشر جاء الإسلام فأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا ينتصروا لأنفسهم مهما بلغهم.. .

الإيمان عزة ورفعة عن أن تسجد لغير الله:
قال عمر: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله.

وقال ربعي بن عامر: "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".

الإيمان غذاء يزيد صاحبه كل يوم سمو روح، ونقاء قلب، ونظافة خلق:
لا يعرف المؤمن دناءة النفس، ولا يطلب محقرات الأشياء، ولا يميل للسفاسف.. لا يعرف قذارة اللسان والفحش والبذاءة، والسب والشتم، ولو حتى في الدفاع عن الدين أو مهاجمة الآخرين، وإنما دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة على بصيرة.. [ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذئ].

إذا تعلم الإنسان الإيمان ثبت قلبه أمام الفتن والمغريات، وصمد جسده أمام المصائب والابتلاءات، ورضيت نفسه بما يصيبها في سبيل رب الأرض والسموات.. وسل بلالا وخبابا وأبا ذر وابن مسعود.

إنها دعوة للعودة مرة أخرى لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في التربية، أن نبدأ بالإيمان ليتعلق الناس بربهم، ثم بالقرآن ليطيعوا أمره ويستجيبوا لشرعه. فالأمر كما قال الله: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء}. وقال: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}. صدق الله العظيم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

المواساة خلق أهل المروءة

"المواساة" خلق نبيل، من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات التي دعا إليها الإسلام، وهو من أخلاق المؤمنين، وجميل...المزيد