الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حين بكت المآذن والممالك والنواحي

حين بكت المآذن والممالك والنواحي

حين بكت المآذن والممالك والنواحي

إذا ذكرت جملة الخلافة الإسلامية والأمة الإسلامية عليك أن تفسح المجال فورا لصور ذوى اللحى الكثيفة والملابس السوداء وهم يقطعون الرؤوس ويحزون الأعناق ويخطفون العذارى ويقطعون الفيافي مجلجلين بسيوفهم المخضبة بدماء الكفار وتحوطهم الرايات المكتوب عليها بكل ( الأسفات ) أعظم شعارعرفته الإنسانية على دربها المديد نحو الحرية والرحمة والعدل (لا إله إلا الله محمد رسول الله).

أقول ذلك في ذكرى إلغاء الخلافة ( 3 / 3/ 1924 م ) التي كانت تجمع تحت لوائها مللا وأعراقا وأجناسا ومذاهبا من المغرب وحتى المجر والنمسا لتدخل المنطقة بعد هذا القرار اللئيم في حقبة (سايكس بيكو) التي تكاد تنهي فصلها الأخير الآن
وخوفا من أن يكون ما في تجربة المائة عام الماضية من فشل الدولة القومية وتحلل المجتمعات العربية والإسلامية حضاريا وأخلاقيا - خوفا من أن يكون ذلك عبرة تاريخية لاستعادة الأمة لذاتيتها وجوهر وجودها في التاريخ وكل هذه المبادىء التي جعلت لوجودها كل ذلك المعنى الذي كان لها ، وكما اعتبرت أوروبا من حروبها فسعت الى وحدتها التي طالما كانت حلما وإلهاما للمفكرين والفنانين ولازالت رغم ما يجري الأن من تطرف يميني عنصري(تذكروا ما قاله هيجل عن نابليون الذي وصفه بأنه روح التاريخ ولوحة جاك ديفيد التي رسمها له وهو يعبر جبال الألب مشيرا بإصبعه نحو المستقبل على طريق وحدة أوروبا) ورغم الأصوات المتقطعة التي يتصايح بها اليمين المتطرف الآن إلا أن فكرة توحد أوروبا في ظل حضارتها الإغريقية / المسيحية كانت ولا زالت أملا كبيرا رغم افتقاد هذه الوحدة لعشر ما تمتلكه الأمة الإسلامية من مقومات حضارية لبقاء وحدتها، خوفا من كل ذلك خرج علينا ذوو السيوف واللحى وهم يحملون (فكرة الخلافة )على الرؤوس المقطوعة والأجساد المحروقة ليقطعوا الطريق على (أصحاب الحق والجدارة) في الحديث عن ضرورة الرابطة الإسلامية (الخلافة) كجامع روحي وحضاري يجمع كل الأعراق والطوائف كما كانت الأمة دائما عبر كل تاريخها الطويل من يوم أن جاء الإسلام وجعل من العرب أمة.
وإذا كان من معنى لهذه الذكرى العبوس القمطرير فهو ما نراه الآن في المشرق العربي واليمن وليبيا من تصارع السفهاء والعملاء على التقسيم والتجزيء في ظلال (بعض القادة).

فشلت الدولة القومية بقطريتها الضيقة وزعاماتها المختلة وإيديولوجياتها الممسوخة في أن تقدم لشعوبها أي شيء حتى انتهت صلاحية وجودها في أدنى مبرراته وتحللت وذابت تاركة وراءها كل أنواع الخراب و البؤس السياسي والأخلاقي والاجتماعي والفكري.
يقول لنا التاريخ: إن الأقليات الدينية في العالم كله لم تر تسامحًا واستقرارًا كما رأته في ظل الحضارة الإسلامية وتحت حكم (نظام الخلافة الإسلامية) وقد أجمع المؤرخون الغربيون على أن (المسلمين الأولين في زمن الخلفاء لم يقتصروا في معاملة الأقليات الدينية على مجرد الاحترام بل فوضوا إليهم كثيراً من الأعمال الجسام ورقوهم إلى مناصب الدولة)وكما قال المؤرخ والمفكر الإنجليزى هربرت ويلز صاحب الرواية الشهيرة آلة الزمن في كتابه(معالم تاريخ الإنسانية)عن الحضارة الإسلامية وقت الخلافة:( إنها أسست في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم وإنها لتنفخ في الناس روح الكرم والسماحة كما أنها إنسانية السمة، ممكنة التنفيذ ..).

حين نعى شوقي الخلافة بأعذب وأعمق وأوجع ما في وجدانه شعرا وفكرا وقال قصيدتة الشهيرة
عــادت أغــاني العــرس رجـعَ نواح ونُعيتِ بين معالـم الأفـراح
كُفّنت في ليـلِ الزفــاف بثـــوبـه ودُفنت عند تبلّج الإصبــاح
ضجّت عليـــك مـــآذنٌ ومنـابـرٌ وبكت عليك ممالكٌ ونَــوَاحِ
الـهـنـدُ والـهـةٌ ومصـر حـزينــةٌ تبـكي علـيـك بمدمع سـحاح

والشــام تســأل والعـراق وفارس أمحا من الأرض الخلافةَ ماحِ

في الوقت الذي قدم فيه شوقي هذا السؤال المروع كان هناك رجل آخر يختار موضوع رسالته للدكتوراه عن الخلافة عام1924م في نفس عام إلغائها !! وهى الرسالة التي نشرت في كتاب سنة 1926م بمدينة ليون الفرنسية هذا الرجل هوالدكتور عبد الرازق السنهورى ،الرسالة أشرف عليها أستاذ فرنسي(إدوارد لامبير) والذي كان قد نصحه في البداية بالابتعاد عن هذا الموضوع لحساسيته في العقلية الأوروبية خاصة بعد الانتصار الذي تحقق في الحرب العالمية الأولى 1918 والذي أدى إلى الإطاحة بالخلافة العثمانية وتوزيع ممتلكاتها على دول الحلفاء المنتصرين وفي مقدمتهم فرنسا ،إلا أن السنهوري ولثقته الكاملة في مبادىء الإسلام في مجال النظم القانونية و السياسية والاجتماعية أصر على أن يكون موضوعه للدكتوراة هو الخلافة الإسلامية (كان ذلك قبل تأسيس جماعة الإخوان المسلمين ودعوتها المركزية الى عودة الخلافة عام 1928) كان السنهوري رحمه الله يؤمن إيمانا قاطعا بضرورة إعادة الخلافة في صورة منظمة دولية في المستقبل(تحمل راية الإسلام وتخلد مبادئه و نظمه وتحمي وحدة أمته ومستقبلها وتمكنها من القيام بدورها في المشاركة في مستقبل العالم كأمة عظيمة خالدة موحدة) لعل ميشيل عفلق التقط منه شعار البعث المشهور: أمة واحدة ذات رسالة خالدة.

في مقدمة الكتاب يشير السنهوري إلى إلغاء الخلافة الإسلامية عام 1924م بقوله: إنها المرة الثانية التي يجد العالم الاسلامي نفسه دون خلافة، المرة الأولى كانت بعد هجوم التتار على الخلافة العباسية في بغداد 1258م، ثم يشير في موضع أخر إلى أن موضوع بحثه ليس الإسلام كدين وعقيدة إنما بحثه ينصب على الشريعة باعتبارها علما وثقافة قانونية مليئة بالنظريات التي تثري الفقة القانوني في العالم كله فأنا كمسلم- يقول - ملتزم بإخلاص شديد واحترام عميق للدين الاسلامي، إثراء الشريعة للفقه القانوني في العالم كله أشار إليه الأستاذ الفرنسي قائلا:(دراسة السنهوري قدمت لمعهد القانون المقارن كتابا يفخر به في مجال الدراسات المقارنة، كما قدمت لعلم القانون المقارن والبحوث القانونية بصفة عامة اكبر خدمة علمية بإبراز مبادىء الشريعة الإسلامية الأصيلة فيما يتعلق بنظام الدولة وأصول الحكم على حقيقتها التي يجهلها العلماء الأوربيون أو يتجاهلونها نتيجة المحاذير السياسية ورواسب التعصب المنتسبة إلى المسيحية وهي في حقيقتها مظهر من مظاهر الأطماع الاستعمارية).
يخلص السنهوري في دراسته الرائعة والتي كان موضوعها الرئيس فكرة الخلافة كإطار سياسي جامع إلى أن مبدأ الفصل بين السلطات هو أساس نظام الحكم الإسلامي خاصة ما يتعلق بالسلطة التشريعية التي يجب أن تكون مستقلة استقلالاً تاماً عن الخليفة.

إجماع الأمة هو مصدر التشريع الإسلامي وأن الأمة هي التي تعبر عن الإرادة الإلهية بإجماعها وليس الخليفة أو الحاكم بسلطته
سيادة الأمة يؤدي بالضرورة إلى سيادة السلطة التشريعية ويجب ألا يملكها فرد مهما تكن مكانته خليفة كان أو أميراً أو ملكا أو حاكماً أو فهي لله تعالى وهو سبحانه فوضها للأمة في مجموعها والتي يجب أن يرتبط بها(الإجماع) في شكله الصحيح.
هذا الكلام العلمي الدقيق الذي أشرف على إنتاجه عالم فرنسي كبير وصف د السنهوري بأنه(عالم مسلم ناشىء فذ) وأكد على فائدة الكتاب للقراء العرب في أنه سيوضح الفرق بين المبادىء الإسلامية التي تقوم عليها نظرية الخلافة ونظام الحكم، وبين الممارسات التاريخية التي ابتعدت عن تلك المبادىء في بعض الأوقات، وفوق ذلك يستخلص من الأصول النظرية والتجارب التاريخية والواقع العصري للعالم الاسلامي خطة جديدة لإعادة بناء الخلافة في المستقبل في صورة منظمة دوليه شرقية إسلامية كما قال الأستاذ المشرف على الرسالة.

لم يكن عبد الرازق السنهوري باشا غائبًا عن الواقع حين اختار موضوع رسالته عن الدكتوراه لتكون عن (الخلافة الإسلامية) وهو رجل الدولة العظيم الذي كان يكتب رسالة دكتوراه للمستقبل وليس نعيًا وتأبينًا لماضٍ مضى وانقضى..ولسوف تأتي الأزمان لتعطي هذا الجهد الكبير تقديره وتحقيقه وصدقيته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصريون ( بتصرف يسير )

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

اقرأ في إسلام ويب

الدارقطني الحافظ الكبير

أبو الحسن على بن عمر بن أحمد بن مهدى الدارقطني إمام من أئمة الحديث، من أهل بغداد، من الحفاظ الأفراد، والجهابذة...المزيد