الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فيه آيات بينات

فيه آيات بينات

فيه آيات بينات

إن حياة المسلم كلها موصولة بالبيت العتيق حيث يبدأ صباحه بالتوجه إليه، وينهي نهاره، ويبدأ ليله بالتوجه إليه أيضا، ويمارس عملية التوجه، والصلاة خمس مرات يوميا، مصرا على استرداد معاني التوحيد وآثاره، التي انطلقت من البيت العتيق، معتقدا أن هذا الموقع الذي انطلقت منه خير أمة أخرجت للناس، يمتلك الإمكان والقدرة، في كل وقت وحين إذا توافرت الشروط، على معاودة إخراج الأمة، التي تمتلك الخيرية للعاملين، ذلك أن نهوض أي مجتمع، مرهون بتوفير شروط وظروف ميلاده الأول.

إن توجه المسلم المستمر، إلى البيت العتيق، نفسيا في المعتقد، وحركيا في عبادة الصلاة والحج، يعني فيما يعني، الخلوص من العبوديات، والتحرر من كل ألوان التسلط، والضغط، والإكراه، والانعتاق من كل المغريات المادية والمعنوية، والانطلاق إلى أداء الرسالة، التي بني عليها البيت من أول يوم في تاريخ النبوة، رسالة التوحيد والتحرير.

إنه البيت العتيق، قبلة الإنسان العتيق من كل القيود والإصار، الذي يمتلك المسلم التاريخ بالتوجه إليه، فينسلك في قافلة النبوة، التي انطلقت من ذرية إبراهيم، ومقامه عند البيت الحرام، ويسعد بكسبها ويستمد من عطائها، ويدخل في قافلة الخلود، الذي لا يحده الموت، وقد يتوج هذه المعاني كلها عمليا، إذا امتلك الزاد والراحلة، فيسقط جدار الزمان، ويختزل مساحة المكان، ليحج البيت العتيق ويطوف حوله، متمحورا حول المعاني الكبيرة، التي يحملها في تاريخه الطويل، واقفا أمام الآيات البينات وجها لوجه، وفي مقدمتها مقام إبراهيم، باني التوحيد، وصاحب الحنيفية السمحة، {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا}(آل عمران:97) {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل}(الحج: 78).

إن الآيات البينات، التي يقرأ عنها المسلم، ويتوجه إليها يوميا، والتي كان يؤمن بها غيبا من الغيب، يشهدها هنا في رحاب البيت الحرام عيانا في لحظات، يحس معها بمعاني الخلود وآفاق الامتداد، وأخوة البشرية، ووحدة الإنسانية، ويسقط معها كل صور الزيف، والتمييز، ويستشعر أنه لم يعد بينه وبين الله حجاب، فيعب من الخير على أرض النبوة، وفي مواقع القدوة، مترسما خطا النبوة، متوسما الآيات البينات، لأنها آيات للمتوسمين، هنا في رحاب البيت العتيق، يتحرر من كل قيد، ويطلق سمعه، وبصره، وعقله، وحسه، وحدسه، لإدراك الآيات البينات.

هنا في رحاب البيت الحرام، وعلى مقربة منه، يسمع من وراء الزمن المنظور، ومن غار حراء عطاء الوحي الخالد: {أقرأ باسم ربك الذي خلق}(العلق:1) فيدرك أن الإسلام كان المرحلة الفاصلة بين العلم والجهل، بين الضلال والضياع، بين الإيمان واليقين، ويدرك أيضا أن العلم مفتاح هذا الدين، ويعتصر قلبه أسى وحسرة، على أن نسبة الأمية في عالم المسلمين اليوم، هي أعلى النسب؛ ذلك أن أمة اقرأ أصبحت لا تقرأ!

ولعل ذلك الصوت الغائب اليوم، عن الحياة الإسلامية، بالشكل المطلوب، صوت الوحي: بـ{اقرأ}، هو من أولى الخطوات المطلوب استردادها، وأولى الآيات البينات.

فإذا نظر المسلم إلى الكعبة، التي جعلت مثابة للناس وأمنا، يلمح في تاريخ النبوة، كيف أن هذا البيت الذي بني على التوحيد، ترجمت النبوة الخاتمة معاني التوحيد فيه إلى واقع الناس، وأعلنت وحدتهم العملية، وكأنه يرى بلالا رضي الله عنه يصعد الكعبة، بساقيه السوداوين، ليعلن نداء التوحيد، والمساواة، وتتعاظم مكانته وتتعاظم، ليدوس بقدمه سطح الكعبة ويصبح سيدا، فالإنسان المؤمن أكرم من كل شيء - وأبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا- بعد أن كان يسمى الغراب الأسود.

إن المسلم، الذي يبصر مكانة بلال، من وراء الحجب، يدرك من الآيات البينات، الشيء الكثير الغائب عن حياة المسلمين اليوم، والذي يمثل روح الحضارة الإسلامية، وهو المساواة، وعدم التمييز، وأن الأكرم هو الأتقى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}(الحجرات: 13) وعندما يطوف في خياله، نموذج بلال وسليمان، لا بد له أن يقف ولو للحظات، عند معاني الكرامة، وتصويب الموازين، فبلال يصعد حتى يقف على الكعبة، والقرآن، يتلى: {تبت يدا أبي لهب وتب . ما أغنى عنه ماله وما كسب . سيصلى نارا ذات لهب . وامرأته حمالة الحطب . في جيدها حبل من مسد}(سورة المسد)؛ فيدرك هذه الآيات البينات، وكيف أن رموز الجهل والظلم والجاهلية، أصبحت وسائل إيضاح، لمصير كل الطغاة والمعاندين للحق، لقد غابت الجاهلية برموزها وتاريخها، وبدأت الآيات البينات، والمعاني الجديدة للقيم الإنسانية الجديدة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما معناه: [إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتفاخرها بالآباء، كلكم لأدم وآدم من تراب](حديث حسن)، {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس}(البقرة: 199)

المسلم في رحلة الحج، يقف كما أسلفنا، وجها لوجه أمام الآيات البينات، هنا في الحج، يصبح الماضي مستقبلا، ويتحول التاريخ، من الوراء إلى الإمام، فيتزود الإنسان بالآيات البينات، ليعود مولودا جديدا، [فمن حج لله، فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه](متفق عليه)

إنه يرى صورة أبي لهب الدارسة، ويرى معها صور كل أولئك الذين يحملون الحطب اليوم، ليحاربوا الدعوة والصحوة، ويرى مصارعهم، وكيف أنهم سيصبحون وسائل إيضاح للطغاة والمتألهين، الذين يسيرون وراء لواء أبي لهب إلى النار، فيزداد المسلم قوة على قوة، وتصميما على تصميم، في الثبات على الحق، والدفاع عنه، لأنه يعلم أن الله يضرب الحق والباطل، {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}(الرعد: ).

ومن الآيات البينات أيضا ما يقرره العلماء: من أن النظر إلى البيت الحرام: الكعبة عبادة، ذلك أن هذا النظر، والتأمل، والتوسم سوف يستدعي الكثير من المعاني الغائبة.

إن هذا النظر، يذكر أول ما يذكر، بحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء إعادة بناء الكعبة، ووضع الحجر كما أنه يذكر بحكمته في الدعوة، وأخذ الناس بأحكام الإسلام شيئا فشيئا، فيستمع إلى حديثه العظيم في قولته لعائشة: [لولا أن قومك حديثو عهد بالإسلام لهدمت البيت، وأقمته على قواعد إبراهيم]. ويدرك حكمته وكيف أنه تحول إلى تغيير النفوس، لا إلى تحطيم الرؤوس، فكان يقرأ القرآن، ويطوف البيت الحرام، والأصنام تملأ ساحاته، فلم يمسها بأذى، حتى انتهى الأمر بها إلى أن كسرها عبادها، بأيديهم بعد أن آمنوا.

يتأمل المسلم في الكعبة، وتأمله عبادة فيستثير التأمل في نفسه الكثير والكثير، من المعاني الغائبة، يتذكر ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من الصبر والمصابرة، وما كان عليه المسلمون من الاستعجال، والرغبة في النصر السريع والضيق، بالمعاناة الشديدة، وكيف أنهم لا يدركون تماما أن مع العسر يسرا، وأن العسر والشدة مقدمات النصر.

وكأن المسلم الذي يتأمل في الكعبة، ليدرك الآيات البينات، يبصر من السيرة، وعند هذا المكان كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم: كان متوسدا بردته في ظلها، عندما جاءه المسلمون يقولون: ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا، وقد أصابهم من الشدة ما أصابهم، فيقول لهم بما معناه: [لقد كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل، فينشر بالمناشير ما بين فرقه وقدمه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ما يثنيه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الدين حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، ولكنكم تستعجلون](رواه البخاري)؛ فيتعلم المسلم من رحلة الحج، فن الصبر، ويدرك أبعاده وآماده، وأعماره المطلوبة، فيدرك خطورة حرق الزمان، ويدرك خطورة الاستعجال، ويدرك خطورة التحول، من تغيير النفوس، إلى محاولة الإطاحة بالخصوم.

يدرك المسلم في جنبات هذا البيت، كيف أن الكثير من الصحابة، سمعوا آيات الله تتلى وهم أهل الفصاحة والبيان، ومع ذلك لم يؤمنوا لسنوات من السماع طويلة، ثم ما لبثوا أن آمنوا، وكانوا عدة الإسلام، ورجاله العظام، فيعيد حسابه من جديد، ويدرك أن عملية التربية، والتحويل الثقافي، وتغيير النفوس من الصناعات الثقيلة، التي تقتضي الكثير من الصبر، والاحتساب، والمصابرة، حتى تنضج الثمار، ذلك أن أي استنهاض للنبتة قبل أوانها، يعني قطعها والقضاء عليها، فيتعلم من الحج فن الصبر، والاحتمال في سبيل الله، وأن لكل أجل كتابا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب "في رحاب الحرم"

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

المواساة خلق أهل المروءة

"المواساة" خلق نبيل، من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات التي دعا إليها الإسلام، وهو من أخلاق المؤمنين، وجميل...المزيد