الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لنسفعا بالناصية

لنسفعا بالناصية

لنسفعا بالناصية

مر أبو جهل ذات يوم برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند المقام، فقال: "يا محمد! ألم أنهك عن هذا؟ وتوعد رسول الله بالشر والأذى". فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بخناقه وقال له: "أولى لك ثم أولى لك"، فقال أبو جهل: يا محمد بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديا، فأنزل الله: {فليدع ناديه سندع الزبانية}.

وعن ابن عباس، قال: كان رسول صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاءه أبو جهل، فنهاه أن يصلي، فأنـزل الله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى*عَبْدًا إِذَا صَلَّى...} إلى قوله: {كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية}.

في هذه الآيات تهديد لمن يتمادى في الغي، وفيها تلويح إلى وجوب الإقصار عن الشر، وفيها تلميح إلى أن العلم باطلاع الله عز وجل على الخلائق أمر فطري لا يحتاج إلى برهان، وفيها تعريض بغباوة من يجهل هذه الحقيقة، أو يكابر في شأنها ممن تعامى في الطغيان.

ما أجمل أن يستحضر كل أحد من الناس هذه الحقيقة إذا امتدت عينه إلى خيانة، أو يده إلى حرام، أو سارت قدمه إلى سوء، أو تحرك لسانه بقبيح، وما أروع أن تكون هذه الحقيقة نصب أعيننا إذا أردنا القيام بما أنيط بنا من عمل، جاء في الحديث النبوي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته]، قال: ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}[هود:102] "متفق عليه".

وأمام مشهد الطغيان الذي يقف في وجه الدعوة، وفي وجه الإيمان، وفي وجه الطاعة، وفي وجه كرامة الإنسان وحقه في الحرية والعيش بسلام، يجيء التهديد الحاسم الرادع الأخير مكشوفا في هذه المرة لا ملفوفا: {كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية}[العلق:15-19].
هكذا (لنسفعا).. بهذا اللفظ الشديد المصور بجرسه لمعناه.
والسفع: الأخذ بعنف. والناصية: الجبهة. أعلى مكان يرفعه الطاغية المتكبر، مقدم الرأس المتشامخ، إنها ناصية تستحق السفع والصرع: «ناصية كاذبة خاطئة»!

وإنها للحظة سفع وصرع، فقد يخطر له أن يدعو من يعتز بهم من أهله وصحبه، ومن أظهر نصره ووافقه على جرمه وطغيانه، ومد له يد العون بالمال والنصرة والإيواء: «فليدع ناديه» فالله مولى الذين آمنوا يقول له: «سندع الزبانية» الشداد الغلاظ..
فالمعركة إذن معروفة المصير! {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا}[مريم75]، {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}[الأنعام 44-45].

ولنا عبرة وعظة في نهاية الظالمين من الأمم والشعوب والطغاة {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}[العنكبوت:40].

ومن تأمل نهاية الظالمين وما جرى عليهم من العذاب والهلاك يتعجب من الظلمة الطغاة الذين لم يأت أجلهم بعد، لا يهدأ لهم بال حتى يروا دماء الأبرياء من المؤمنين تنزف على أيدي زبانيتهم المجرمين، فأطلقوا لأنفسهم ولأعوانهم العنان، وتجاوزوا الحدود، وانتهكوا المحرمات، وجاهروا بالمعاصي والمنكرات.

جاء رجل إلى سفيان الثوري رحمه الله تعالى يستفتيه فقال الرجل: إني أخيط ثياب السلطان فهل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال سفيان: بل أنت من الظلمة أنفسهم، ولكن أعوان الظلمة من يبيع لك الإبرة والخيوط.

فالظلم وخيم العاقبة، شديد النكاية، يمزق أهله كل ممزق، ويبيدهم شر إبادة، ويخرب الديار، ويقصر الأعمار، ويجعل أهله إلى دمار: {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين}[الأنبياء:11].
وهكذا تكون نهاية الظلمة والطغاة وأعوانهم والراكنين إليهم على مر الأزمان والدهور.

هلاك أبي جهل:
لم يكتف أبو جهل بمجرد تهديد النبي صلى الله عليه وسلم، ومحاولة منعة من الصلاة عند بيت الله، ولم يزجره الوعيد الرباني الشديد عن قبح فعله، وإنما استمر في عناده وطغيانه وغطرسته، يلصق التهم بالأبرياء، ويصد الناس عن دعوة الخير والتواصل مع أهل الخير، واستمر في التحريض على قتل وتعذيب المؤمنين، وممارسة ذلك بنفسه وتوزيع الأموال على كل من يشارك في حمل عصى الظلم على دعاة الخير وأهل العدل. ومد الله له في العمر فواصل التنكيل بالمسلمين بعد هجرتهم، وجمع ناديه وذهب بكل كبر وغطرسة إلى بدر لقتال من أظلم في حقهم، وسفك دماءهم، وجلد ظهورهم، وآذاهم شر الأذى؛ فكتب الله نهايته هناك، وأماته شر موتة، وتركه عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

الوزير المتجبر
الوزير محمد عبد الملك الزيات: كان من العصبة التي لها يد في سجن علماء الأمة وتعذيبهم ـ وعلى رأسهم إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رضي الله عنه ـ فاتخذ تنورا من حديد وأطراف مساميره المحددة إلى داخل، وهي قائمة مثل رؤوس المسال، وكان يعذب فيه علماء الأمة والمصلحين، فكيفما انقلب واحد منهم أو تحرك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه، فيجدون لذلك أشد الألم، لم يسبقه أحد إلى هذه المعاقبة، وكان إذا قال أحد منهم: أيها الوزير الرحمة. فيقول له: الرحمة خور في الطبيعة.
فلما اعتقله المتوكل سجنه في قفص حرج، جهاته مسامير كالمسال، فكان يصيح ارحموني ارحموني فيقولون له: الرحمة خور في الطبيعة.

المقهور العباسي
القاهر بالله العباسي، كان أحد هؤلاء المتجبرين، يقول فيه الذهبي: كان فيه شر وجبروت وطيش بايعوه بعد المقتدر، فصادر حاشية أخيه وعذبهم، وبالغ في الإساءة حتى نهب دور مخالفيه، وتجبر على كثير من العلماء والأبرياء، قال الصولي: كان أهوج سفاكا للدماء، كثير التلون، قبيح السيرة، مدمنا للخمر، ولولا جودة حاجبه سلامة لأهلك الحرث والنسل، وكان قد صنع حربة يحملها فلا يطرحها حتى يقتل إنسانا؛ فنفرت منه القلوب، وثار عليه الشعب حتى تم خلعه، وأكحل بمسمار (سملت عينه بمسمار محمي) لسوء سيرته، وسفكه للدماء، وانتهى به الأمر يطلب الناس على أبواب المساجد ويقول: تصدقوا علي فأنا من عرفتم.

ابن العلقمي المشؤوم:
استوزر الخليفة المستعصم بالله مؤيد الدين ابن العلقمي ـ المشؤم على نفسه وعلى أهل بغداد ـ الذي لم يعصم المستعصم في وزارته، فإنه لم يكن وزير صدق ولا مرضي الطريقة، فإنه هو الذي أعان على المسلمين في قضية التتار ـ قبحه الله وإياهم ـ فكان أول من خرج في لقاء التتار والترحيب بهم، ومكن لهم في الدخول للعراق وبغداد، وفرح بقتلهم من شعب العراق ما يزيد على 700000 نسمة، وفيهم الكثير من خيار الأمة.

وكان يطمع في أن يستوزره حاكم التتار، فأهانوه وأذلوه حتى ذاق الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، وقد رأته امرأته وهو في الذل والهوان أيام التتار، فوقفت إلى جانبه وقالت له: يا ابن العلقمي هكذا كان بنو العباس يعاملونك؟ فوقعت كلمتها في قلبه، وانقطع إلى داره إلى أن مات كمدا وغبينة وضيقا وقلة وذلة، ثم أخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة سريعا هو وولده الخبيث الذي استوزر من بعده.

ولقد صدق الإمام الحسن البصري رحمه الله حين قال: (خصلتان من العبد إذا صلحتا صلح ما سواهما: عدم الركون إلى الظلمة، وعدم الطغيان في النعمة).. فالله يقول: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}[هود:113]، ويقول سبحانه: {ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى}[طه:81].

فمهما طال ليل الظلم البهيم فلابد أن يسطع بعده نور العدل المبين، ولقد علمنا التاريخ أن الحق إذا انفصل عن القوة وافترقا صارت الحرب بينهما حرب سجال، فالحق وحده بدون قوة لن يفعل شيئا في وجه القوة العمياء المجردة من الحق، إنها سنة الله في الكون.

ومن روائع سيرة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه سأل رجاء بن حيوة رحمه الله تعالى عن حال رعيته مع العمال فقال: رأيت الظالم مقهورا، والمظلوم منصورا، والفقير مبرورا، فقال: الحمد الله الذي وهب لي من العدل ما تطمئن إليه قلوب رعيتي.

اللهم هيئ لنا أمرا رشدا، واجعل ولاية أمة محمد فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك.. يا أرحم الراحمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

المواساة خلق أهل المروءة

"المواساة" خلق نبيل، من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات التي دعا إليها الإسلام، وهو من أخلاق المؤمنين، وجميل...المزيد