الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الهدي النبوي في تصحيح الأخطاء 2-3

الهدي النبوي في تصحيح الأخطاء 2-3

الهدي النبوي في تصحيح الأخطاء 2-3


التعامل النبوي مع جميع فئات المجتمع موضع قدوة وأسوة، فقد كان يعالج أخطاء الجميع من حوله، يخاطب كل فئة بما يناسبها، ويوجه كل شريحة بما يتلاءم مع طبيعتها وخصائصها، فالأطفال والغلمان لهم خطاب يناسبهم، وللنساء خصوصية في التوجيه النبوي وتصحيح أخطاءهن، وفي ذلك كله حكمة وقدوة حسنة لكل من يتصدى للتوجيه والتربية، وفيما يلي أدناه تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أخطاء فئة من فئات المجتمع وهم الأطفال والغلمان.


ومع أهمية تقويم الكبار وتوجيه سلوكياتهم الخاطئة إلا أن الصغار في هذا الشأن أهم بكثير؛ إذ أن الصغير في مرحلة التكوين العقلي والبناء النفسي فيكون أشد حاجة لتقويم سلوكياته وتصحيح أخطائه، فتتشكل لديه خارطة الصواب والخطأ، وتترسم عنده حدود المسموح والممنوع، ولهذا كان الأطفال يحظون بوافر من توجيهات النبي _صلى الله عليه وسلم_ وتصويباته التي حفظها لنا هؤلاء الأطفال صغارا، ورووها لنا كبارا؛ لتصبح منهجا للمربين وقاعدة للمتربين.

من الأساليب النبوية في تصويب الأطفال: التصحيح الفكري:

بمعنى أنه قد يكون الخطأ ناتجاً عن الجهل بالمعلومة، فلا يحتاج سوى التعليم، ومثاله ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه, فقال النبي -صلى الله عليه و سلم-:«كَخْ كَخْ» ليطرحها ثم قال : «أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة».
قال القاضي عياض: «كَخْ كَخْ» بفتح الكاف وكسرها وتسكين الخاء ، ويجوز كسرها مع التنوين ، وهي كلمة يزجر بها الصبيان عن المستقذرات فيقال له: «كَخْ» أي: اتركه، وارم به.
فأوصل إليه فكرة كان يجهلها، وغرسها في نفسه حكماً شرعياً لكن بأسلوب تعليمي هادئ، فلم يعنف أو يوبخ، لأن الخطأ ناتج عن جهل، والمناسب لهذا النوع من الأخطاء هو طرح المعلومة مجردة عن الأساليب المنفرة، إذ المقصود هو التصويب والتعليم.

من الأساليب النبوية في تصويب الأطفال: الملاطفة:

فكان يصاحب تقويمَه للخطأ شيءٌ من الملاطفة والاستمالة لقلب الطفل؛ ليصلح خطأه، ويعدل من سلوكه، فربما مسح رأسه، أو دعا له، وقد يمازحه بكلمات تزيل الوحشةَ بينه وبينه، فيكون التوجيه أعمق أثراً في نفس المتلقي، ففي المستدرك عن رافع بن عمرو الغفاري، قال: كنت أرمي نخلا للأنصار ، وأنا غلام، فرآني النبي
-صلى الله عليه وسلم- فقال : «يا غلام، لم ترمي النخل؟» فقلت : الجوع ، قال: «فلا ترمِ النخل ، وكُلْ مما يسقط في أسفلها » ، ثم مسح رأسي، وقال : «اللهم أشبع بطنه».

ومن ذلك:
مناداة الطفل بلفظ يشعره بفيض من الرحمة والشفقة مثاله: ما أخرج البخاري ومسلم عن عمر بن أبي سلمة –رضي الله عنه- قال: كنت غلاما في حجر رسول الله- صلى الله عليه و سلم-، وكانت يدي تطيش في الصحفة, فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا غلام سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك»، فما زالت تلك طَعْمتي بعد.
طعمتي أي: صفة أكلي وطريقتي فيه بعد توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم وتصحيح الخطأ.
وفي رواية الترمذي «أُدْنُ يا بني، وسمِّ الله وكُلْ بيمينك»، وفي هذا النداء المشبع بالأبوة، المغمور بالشفقة من الأثر التربوي في نفس الطفل الشيء الكبير، حيث بقي هذا التوجيه مؤثرا فيه حتى أصبح كبيرا.
ومن ذلك: حديث عبد الله بن بسر –رضي الله عنه- قال: بعثتني أمي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقطف من عنب فأكلتُه، فقالت: أمي لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- هل أتاك عبد الله بقطف؟ قال: «لا»، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآني قال: «غُدَر غُدَر»، رواه الطبراني في الكبير. «غُدَر»: من الغدر بمعنى غادر، وهو الناقض للعهد.
فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم حفظ الأمانة، ولكن بتلطف بالغ، فقوله «يا غدر» لم يرد بها السب على حقيقته كما يقول الشراح، وإنما الملاطفة والتحبب للغلام، مع إشارة خفيفة بالخطأ الذي وقع منه وهو عدم حفظ الأمانة.

من الأساليب النبوية في تصويب الأطفال: التقديم بين يدي تصحيح الخطأ بالمدح والثناء

والمدح للطفل والثناء عليهم بما فيهم من جوانب الخير فإنه أدعى لقبول ما بعده من التصويب والتوجيه، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن الزهري عن سالم عن أبيه -رضي الله عنه- قال: كان الرجل في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى رؤيا يقصها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكنت غلاما شاباً, وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- , فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي الى النار, فإذا هي مطوية كطي البئر, وإذا لها قرنان وإذا فيها أناس قد عرفتهم, فجعلت أقول : أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا ملك آخر قال لي: لم ترع، فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل»، فكان بعدُ -أي عبد الله- لا ينام من الليل إلا قليلا .

قال ابن بطال: نظر رسول الله فى أحوال عبد الله فلم ير شيئًا يغفل عنه من الفرائض فيذكر بالنار، وعلم مبيته فى المسجد فعبر بذلك، لأنه منبه على قيام الليل فيه بالقرآن.

ومن الأساليب النبوية في تصويب الأطفال، وتقويم أخطائهم:

أنه
ربما قرن التوجيه والتصحيح بفعل أو حركة، لجلب انتباه الطفل، واستجماع همته، فيبقى أثره في نفس المتلقي مدة أطول، بخلاف ما لو كان مجرد توجيه لفظي، وهذا من بالغ حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي معجم الطبراني الكبير -وحسن إسناده الهيثمي- عن زينب بنت أبي سلمة، أنها دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يغتسل، فأخذ حفنة من ماء فضرب بها وجهي، وقال: «وراءك أي لُكَاع».
قال في تاج العروس: قوله: «لُكَاع» سُئل بلال بن جرير عن اللُّكع، فقال: هو في لغتنا الصغير.

ومن الأساليب النبوية في تصويب الأطفال، وتقويم أخطائهم:

غضُّ الطرف، والتقليل من العتب، وكما قيل: (كثرة المِسَاسِ تُفقِد الإحساس)، فكثرة الملاحظة لسلوكيات الطفل، ومحاصرة طفولته بمداومة التنبيه والتخطئة تذهب عن نفسه هيبة المربي وتقلل عنده الاهتمام بالتوجيه، والتغاضي المقصود في مواطنه أسلوب من أساليب التربية الصامتة الذي لا غنى للمربي عنه، قَالَ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ -كما في المعجم الأوسط-: خَدَمْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ فَمَا أَمَرَنِي بِأَمْرٍ فَتَوَانَيْتُ عَنْهُ أَوْ ضَيَّعْتُهُ فَلَامَنِي, فَإِنْ لَامَنِي أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلَّا قَالَ: «دَعُوهُ فَلَوْ قُدِّرَ -أَوْ قَالَ- لَوْ قُضِيَ أَنْ يَكُونَ كَانَ».
فكثرة اللوم والعتاب على أخطاء الطفل في مثل هذا السن غير مفيدة ولا مثمرة, بل ربما تكون لها نتائج سلبية من العناد ومحاولة إثبات الذات لدى الطفل.
وفي صحيح مسلم يقول أنس رضي الله عنه: «خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا» وفي رواية: «وما قال لشيء صنعته لم صنعته ؟ ولا لشيء تركتُه لم تركتَه؟».

من خلال ما تقدم يتبين أن العلاقة بين المربي وبين الطفل وبينه وبين المؤسسة التعليمية ليست علاقة عدائية أو انتقامية، وإنما هي علاقة رحمة وشفقة، وتوجيه وتعليم بطرق وأساليب موصلة إلى تقويم سلوك الطفل، وتنمية فكره وآدابه، وحين يسترشد المربون ومؤسسات التعليم بالأساليب النبوية في التربية والتعليم يمكن الوصول إلى نتائج مرضية في وسط الأطفال والغلمان، وحين يتيه المجتمع عن هذه المعالم النبوية يؤل الأمر إلى انحراف في التنشئة وفساد في السلوك.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة