الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

عطاء بن أبي رباح وورعه في التفسير

عطاء بن أبي رباح وورعه في التفسير

عطاء بن أبي رباح وورعه في التفسير

علو الهمة صفة ملازمة لعلماء هذه الأمة، وقد قيل فيما قيل: رجل ذو همة يحيي أمة. وعلو الهمة لا تحتاج إلى جمال منظر، ولا إلى كثرة مال، ولا إلى منصب رفيع، بل تحتاج إلى إخلاص نية، وحسن طوية، وصدق عزيمة، وتوكل على الله.

هذه الصفات التي أتينا على ذكرها كانت صفات التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح الذي انتهت إليه الفتوى في مكة؛ كان ثقة، فقيهًا، عالمًا، كثير الحديث. حدث عن نفسه فقال: أدركت مائتين من الصحابة. فقد سمع من ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وزيد بن خالد رضي الله عنهم أجمعين؛ وروى عنه من التابعين جمع؛ منهم: عمرو بن دينار، والزهري، وأبو الزبير، وقتادة، ومالك بن دينار، وغيرهم.

وعطاء هذا، هو الذي خاطب فيه ابن عباس رضي الله عنهما أهل مكة، بقوله: "تجتمعون إليَّ يا أهل مكة وعندكم عطاء"؛ وهو الذي قال فيه ابن عمر رضي الله عنهما، وقد سئل في مسألة -وكان بمكة- فقال: تجمعون لي المسائل، وفيكم عطاء بن أبي رباح!؛ وهو الذي قال في حقه الإمام الأوزاعي: مات عطاء وهو أرضى أهل الأرض؛ ثم -أخيراً وليس آخراً- هو الذي قال فيه أبو حنيفة: "ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء"، حتى إنه كان ينادى في موسم الحج: "لا يفتى الناس إلا عطاء".

كل هذا -وغيره كثير- يشهد للمكانة العلمية التي كان عليها عطاء بن أبي رباح؛ وليس أدل على ذلك من شهادة أستاذه ابن عباس رضي الله عنهما، الذي لازمه فترة طويلة، وأخذ عنه علم التفسير؛ وعلى الرغم من مكانته العلمية، وملازمته لابن عباس رضي الله عنهما إلا أنه لم يرو عنه الكثير من التفسير، بل نجد أن مجاهداً وسعيد بن جبير يسبقانه من ناحية العلم بتفسير كتاب الله. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى كثرة تورعه عن القول في كتاب الله برأيه؛ وقد رُويَ أنه سئل عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تقول فيها برأيك؟ قال: إن لأستحي من الله أن يُدان في الأرض برأيي.

ومع ذلك، فإن هذا الموقف من عطاء لم يكن ليقلل من أهمية هذا العَلَم بين علماء التفسير، يدلك على هذه المعرفة التفسيرية التي كان عليها، ما روى عنه أهل العلم من التفاسير والأقوال؛ فمن ذلك قوله في قول الله تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} (النور:37) قال: لا يلهيهم بيع ولا شراء عن مواضع حقوق الله، التي فرضها الله تعالى عليهم أن يؤدوها في أوقاتها؛ ويقول في قوله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} (النور:2) قال: ذلك في إقامة الحد عليه؛ وقال أيضًا: ما قال عبد قط: يا رب، يا رب، يا رب، ثلاث مرات، إلا نظر الله إليه؛ فذُكر ذلك للحسن ، فقال: أما تقرؤن القرآن: {ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار * ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد * فاستجاب لهم ربهم} (آل عمران:193-195)؛ وقيل لعطاء: إن ههنا قومًا يزعمون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فقال: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} (محمد:17) فما هذا الهدى الذي زادهم الله؟ وقيل له أيضًا: ويزعمون أن الصلاة والزكاة ليستا من دين الله، فتلا قول الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} (البينة:5).

وقد روي عنه أنه قال يومًا مخاطبًا بعض جلسائه: إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله تعالى أن يُقرأ، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو تنطق في حاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها، أتنكرون أن {عليكم لحافظين * كراما كاتبين} (الانفطار:10-11) وأن {عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (ق:17-18)، أما يستحي أحدكم لو نشرت عليه صحيفته، التي أملاها صدر نهاره، أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه.

روى أبو نعيم في "حلية الأولياء" بسنده عن عطاء، قال: كان عطاء يطيل الصمت، فإذا تكلم يُخيل إلينا أنه يُؤيد. وعن ابن جريج، قال: كان عطاء، بعدما كبر وضعف، يقوم إلى الصلاة، فيقرأ مائتي آية من سورة البقرة وهو قائم، لا يزول منه شيء، ولا يتحرك.

لقد كان أبو محمد -كما كان يكنى- عازفاً عن الدنيا وزخارفها، مقبلاً على الله بقلبه وجوارحه؛ ليس له حاجة إلى سلطان ولا إلى غيره، وكان كل ما يرجوه رحمة ربه في كل أمره، دعاه الخلفاء والأمراء إليهم فأبى أن يبيع دينه بدنياه، وأغدقوا عليه في العطاء فلم يقبل منهم عطاء، وآثر على عطائهم عطاء الله سبحانه.

وقد أكبَّ رحمه الله على طلب العلم وتعليمه كدأب العلماء المخلصين، وأخلص في كل ذلك لله سبحانه -نحسبه كذلك والله حسيبه- فلم يكن ينتظر من الناس جزاء ولا شكوراً...وبهذا نفع الله به المسلمين، ووقع عندهم موقع القبول، حتى وجدنا أصحاب الكتب الستة يُوثِّقونه ويروون عنه، وهو عندهم من المنـزلة بمكان.

لقد كان لعطاء من اسمه نصيب أي نصيب، كان معطاءً للخير بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. توفي رحمه الله سنة (114هـ) بعد أن أمدَّ الله له في العمر، وبارك له في العلم، فكان مثالاً يحتذى للعلماء العاملين المخلصين، فنفع الله به كثيرًا، ورحل عن هذه الدار والناس أحوج ما يكونون إلى علمه وعطائه. فرحمه الله رحمة واسعة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة